الأمير الصغير
أنطوان دو سانت -
أكزوبيري
مع رسومات المؤلف
ترجمة
: باطح كمال
إلى ليون ويرث
أطلب العفو من الأطفال؛ لأنني أهديت هذا الكتاب لشخص كبير، لدي سبب وجيه:
هذا الشخص الكبير هو أعز أصدقائي في هذا العالم. لدي سبب ثان: هذا الشخص الكبير
يمكن أن يفهم كل شيء؛ حتی كتب الأطفال! لدي سبب ثالث: هذا الشخص الكبير يسكن في
فرنسا حيث الجوع والبرد، ويحتاج أن نكون بجانبه... إذا لم تكن كل هذه الأعذار كافية؛
فأود أن أهدي هذا الكتاب للطفل الذي كان هو نفسه هذا الشخص الكبير في يوم ما؛ فكل الأشخاص
الكبار كانوا أطفالا، مع أن القليل فقط من يتذكر ذلك...
إذن... لقد عدلت إهدائي..!
إلى ليون ويرث
لما كان طفلا صغيرا
الفصل الأول
رأيت، حين كان عمري ست
سنوات، صورة رائعة من كتاب يحكي عن الغابة العذراء، كان عنوانه: «قصص معاشة» وكانت
هذه الصورة عبارة عن ثعبان «البوا» الكبير وهو يلتهم أحد وحوش الغاب... وإليكم
الصورة:
كان نص الكتاب يقول: «يقوم
ثعبان البوا بابتلاع كُلِّيٍّ لفرائسه من دون مضغ، ونتيجة لذلك لا يستطيع الحركة،
ثم ينام لمدة ستة أشهر؛ تتم خلالها عملية الهضم.»
لقد فكرت كثيرا في مغامرات
الأدغال، و نجحت في أول رسم لي مستعملا قلم تلوين، وكان رسمي رقم 1 كالآتي:
عرضت باكورة أعمالي على
أشخاص كبار في السن، ووددت أن أعرف ردة فعلهم على تلك الصورة؛ هل أخافتهم أم لا؟
ردوا قائلين: منذ متى يخاف
الناس من قبعة!!؟
رسمي لم يكن أبدا يمثل قبعة
؛ بل كان عبارة عن ثعبان بوا يلتهم فيلا كبيرا، وبينت بعد ذلك ما في داخل الثعبان
برسم جديد كي يفهم هؤلاء الناس؛ لأنهم دائما في حاجة إلى تفاصيل أكبر حتى يستوعبوا
الأمور..!
رسمي رقم 2 كان كالتالي:
نصحني هؤلاء الأشخاص بترك
رسم أفاعي البوا من الداخل والخارج، وأشاروا علي أن أهتم بدروس الجغرافيا،
التاريخ، الحساب، وقواعد اللغة... فضيعت بذلك مسيرة رسام عظيم - وأنا في السادسة من
عمري - بسبب فشل رسمي رقم 1 و 2.
صعب جدًّا على الأشخاص
الكبار أن يفهموا لوحدهم، وهذا متعب كثيرا للصغار؛ حيث يتوجب عليهم دائما شرح كل
صغيرة وكبيرة.
اضطررت إلى تغيير مهنتي؛
فاخترت قيادة الطائرات، مما سمح لي بالتحليق في جميع أنحاء العالم، وأفادتني كثيرا
دروس الجغرافيا التي ساعدني على التمييز بين البلدان، فكنت أفرق بين الصين و
أريزونا من النظرة الأولى .. مفيدة جدًّا هي دروس الجغرافيا، خاصة عندما تضل الطريق
في الليل!!
حصلت على صداقات كثيرة خلال
حياتي مع أناس جِدِّيين، وعشت مدة طويلة بينهم، مما أتاح لي التعرف عليهم عن قرب.
لكن ذلك لم يغير من رأيي
اتجاههم كثيرا!!
كنت لما أقابل أحدهم، وتظهر
عليه علامات الرزانة ورجاحة العقل، أختبره برسمي رقم 1 الذي أحتفظ به دوما؛ كي
أتأكد من سرعة البديهة لديه، لكن الجواب كان دائما: «إنها قبعة»!! وعليه لا أكلمه؛
لا عن أفعى البوا، ولا الغابة العذراء، ولا حتى عن النجوم !!
بل أنزل إلى مستواه فأكلمه
عن لعبة «البريدحا»، الغولف، السياسة... أو ربطات العنق؛ فتجده جد
سعيد؛ لأنه تعرف على شخص عاقل مثله !!
الفصلII
بقيت
وحيدا، من غير أن أجد أحدا أكلمه، إلى أن ألم عطب بطائرتي في الصحراء منذ ست
سنوات، حيث انكسر شيء في محركها، ولأنه لا يوجد معي لا ميكانيكي ولا ركاب، تأهبت
لإصلاح العطل بنفسي، مع أنها كانت صعبة هذه العملية... كانت بالنسبة لي قضية حياة
أو موت، وكمية المياه المتوفرة لدي تكفيني لثمانية أيام فقط!
الليلة الأولى قضيتها نائما
على الرمال، على بعد ألف ميل من أقرب أرض مأهولة... كنت منعزلا أكثر حتى من أولئك الغرقى
الذين يتشبثون بلوح نجاة في وسط المحيط... وتخيلوا مفاجأتي بذلك الصوت الصغير
المضحك يوقظني في الصباح الباكر قائلا:
-من فضلك... ارسم لي خروفا!
-نعم!؟
-ارسم لي خروفا....
قفزت واقفا على رجلي، وكأن
صاعقة ضربتني!! فركت عيني جيِّدا، ونظرت، فإذا بولد صغير غير عادي يقف أمامي،
وفيما بعد سأريكم الصورة الرائعة التي تمكنت من رسمها له! لكن، بطبيعة الحال، رسمي لا يضاهي جمال الأصل، وهذا ليس خطئي؛ لأن
الأشخاص الكبار لم يشجعوني طوال مسيرتي كفنان لما كان عمري ست سنوات، ولم أتعلم
سوى رسم أفاعي البوا المفتوحة والمغلقة !
حدقت في هذا الموقف بأعين
جاحظة، وكنت في غاية الدهشة!!
فلا تنسوا أني على بعد ألف
ميل من أي منطقة مأهولة بالسكان، أيضا هذا الولد الصغير لا تبدو عليه أي علامة من
علامات التعب، الجوع، العطش... ولا حتى الخوف، كما لا يبدو عليه أبدا أنه طفل صغير
تائه في الصحراء، على بعد ألف ميل من أي منطقة مأهولة بالسكان، وفي الأخير لما
تمكنت من الكلام معه قلت:
-لكن... ماذا تفعل هنا!؟
كرر عليَّ طلبه الأول بكل
هدوء وجدية:
-لو سمحت... ارسم لي خروفا!
عندما يكون الأمر مدهشا
للغاية؛ لا يجب علينا أبدا الاستهانة به، وخاصة وأنا بعيد بألف ميل عن أقرب منطقة
مأهولة بالسكان، وأواجه خطر الموت، أخرجت من جيبي ورقة وقلم حبر، وتذكرت جيِّدا
أنني درست الجغرافيا، التاريخ، الحساب، وكذلك قواعد اللغة... وقلت للولد الصغير
بنبرة فيها شيء من الاستياء إني لا أجيد الرسم، فرد قائلا:
-لا يهم! فقط ارسم لي خروفا...
ولأني لم أقم برسم خروف من
قبل؛
عرضت عليه إحدى رسمَتَيَّ التين
قمت برسمهما من قبل؛ لأبين له أني قادر على رسم هذا فقط، وكم كانت دهشتي كبيرة لما
سمعته يقول:
-لا... لا أريد فيلا داخل أفعى البوا، إن
هذا النوع من الأفاعي خطير جدًّا... وكما تعلم فإن وطني صغير جدًّا، و لا يسع
الفيلة، أنا بحاجة الخروف... ارسم لي خروفا... وعليه... قمت برسم الخروف!!
حدق به مليا ثم قال :
-لا، هذا مريض جدًّا... ارسم لي آخر!
رسمت...
ابتسم صديقي الصغير بساحة ولطف:
-هل ترى جيِّدا؟؟ هذا ليس خروفا... هذا كبش؛
لأن لديه قرنين...
فرسمت له خروفا جديدا...
لكنه رفضه مثل سابقيه ...
-هذا عجوز... أريد خروفا يعيش لمدة طويلة !!
ولأن مصري نفذ، وكنت على
عجلة؛ گي أقوم بتفكيك محرك طائرتي؛ لأن الوقت يداهمني، قمت بخربشة هذا الرسم:
وقلت له:
-هذا
صندوق، والخروف الذي تريده بداخله…
فوجئت كثيرا لتهلل وجه حكمي
الصغير :
- تماما مثلما أريده! هل تعتقد أن هذا الخروف بحاجة إلى كمية كبيرة
من العشب؟
-لماذا؟
-المكان عندي ضيق جدًّا...
-سيكفيه بكل تأكيد.. لقد أعطيتك خروفا صغيرا
جدًّا
.
فحنا رأسه على الرسم وقال :
-ليس صغيرا بما فيه الكفاية... انظر... لقد
نام!
وهذه هي الطريقة التي تعرفت
بها على الأمير الصغير..!
الفصل III
تطلب الأمر مني وقتا طويلا
حتى أعرف من أين أتى الأمير الصغير... طرح علي الكثير من الأسئلة، على حسب ظني
كلماته كانت مهمة بالنسبة لي؛ لكن فيما بعد تجلى الأمر تدريجيا... وعندما أمعن
النظر في طائرتي لأول مرة (لن أقوم برسم طائرتي؛ إنه رسم معقد كثيرا، ويحتاج الكثير
من المهارة والتركيز) سأل قائلا:
- ما هذا الشيء الذي أمامي هنا؟
- هذا ليس شيئا... إنها تطير، هذه طائرة... إنها طائرتي..
كنت
فخورا لأني بينت له أني أقود طائرة، فصاح قائلا:
- ماذا!؟ هل سقطت من السماء !؟
- نعم
(أجبته بتواضع)
- آها! هذا مضحك...
انفجر
الأمير الصغير ضاحكا مما أثار حفيظتي؛ لأني لا أحب أي أحد
يستخف
بمصائبي، وأردف قائلا:
- إذن أنت أيضا أتيت من السماء!
من
أي كوكب أنت؟
تجلى
لي بصيص من الأمل لمعرفة سر وجوده الغامض في هذا المكان، وفاجأته بسؤالي:
- وأنت هل أتيت من كوكب آخر؟
لكنه
لم يجبني، بل هز رأسه ببطء ناظرا إلى طائرتي وقال:
- فعلا! لا يمكنك أن تأتي من مكان بعيدا مستعملا هذا الشيء...
تاه
في بحر أحلامه لمدة طويلة، ثم أخرج خروفي من جيبه، وأخذ يتأمل في كنزه تأملا
عميقا.
ولكم
أن تتخيلوا مقدار انبهاري بهذا الأمير الصغير، وشدة فضولي لمعرفة المزيد عنه، ومن
أين أتي.
- من أين أتيت يا صغيري؟ وما هو موطنك؟ وإلى أين تريد أخذ خروفي؟
أجابني
بعد تفكير تأملي:
- الشيء الجيد في هذا الصندوق الذي أعطيتني إياه أنه سيؤمن له
المأوى خلال الليل.
- طبعا، وإذا كنت مؤدبا سأعطيك أيضا حبلا وعمودا كي تتمكن من ربطه
خلال النهار.
يبدو
أن الاقتراح الأخير صدم الأمير الصغير:
- أربطه!! يا لها من فكرة مضحكة!
- لكن إذا لم تربطه سيذهب إلى أي مكان يريده، وبالتالي يضيع منك...
انفجر
صديقي ضاحكا مرة أخرى:
- لكن إلى أين تريده أن يذهب؟
- إلى أي مكان، مباشرة إلى الأمام...
لكن
الأمير الصغير هذه المرة قال بجدية:
- لا يهم؛ لأن المكان عندي صغير جدًّا!
ثم
أضاف بنبرة حزينة:
- من سار إلى الأمام مباشرة لن يذهب بعيدا.
الفصل IV
اكتشفت شيئا آخر ذا أهمية
بالغة؛ وهو أن كوكبه أكبر بقليل من أي منزل عادي!
لم
يدهشني هذا الأمر كثيرا؛ لأني أعلم جيِّدا أنه بالإضافة إلى الكواكب الكبيرة التي
نعرف أسماءها؛ كالأرض، المشتري، المريخ، والزهرة... توجد كواكب أخرى جد صغيرة، لم
نتمكن من اكتشافها؛ لأن حجمها صغير جدًّا، ولا يمكننا أن نراها بالتليسكوب، فعندما
يقوم أحد علماء الفلك باكتشاف أحدها يعطيه رقما معينا لتمييزه عن الآخرين مثلا:
(الكويكب 3251)
عندي
سبب وجيه للاعتقاد أن الكوكب الذي أتى منه الأمير الصغير هو الكويكب «ب 612» هذا
الأخير تم رصده مرة واحدة بالتليسكوب سنة 1909 عن طريق عالم فلك تركي.
خلال
المؤتمر الفلكي العالمي حاول بكل الطرق إثبات ما توصل إليه من اکتشاف مبهر، لكن لا
أحد صدقه بسبب الزي التركي الذي كان يرتديه حينئذ... هكذا هم الأشخاص الكبار!!
ونتيجة
لهذه الحادثة قام دكتاتور تركي بفرض ارتداء الزي الأوروبي والتخلي عن الزي التركي،
ومن لا يفعل ذلك يكون مصيره الموت!! أعاد الفلكي التركي إثبات ما توصل إليه من اكتشاف
سنة 1920 مرتديا زيا أنيقا، وفي هذه المرة صدقة الجميع!!
حدثتكم
عن تفاصيل الكويكب «ب 612» و كلمتكم عن رقمه، ليس لسبب إلا أن الأشخاص الكبار
يحبون الأرقام، فعندما تكلمهم عن صدیق جديد لا يتحرون أبدا عن الأمور المهمة، لا
يسألون: «ما هي طبقة صوته؟ ما هي الألعاب التي يفضلها؟ هل يقوم بجمع الفراشات؟» بل
يسألون:«كم عمره؟ كم عدد إخوته؟ كم يزن؟ ما هي ثروة والده؟» عندها فقط يعتقدون أنهم
عرفوا كل شيء عنه... إذا قلت للأشخاص الكبار: «رأيت منزلا جميلا، مبنيا بطوب وردي،
على نوافذه نباتات جميلة، ويحط فوق سطحه حمام ...»
لن
يستطيعوا تخيله، بل عليك القول: «رأيت منزلا قيمته مائة ألف فرنك» حينها سيصيحون:
«ما أجمله!!»
وإذا
قلت لهم: «الدليل على وجود الأمير الصغير هو لباقته وابتسامته، ولأنه يريد خروفا؛
فعندما نريد خروفا فهذا دليل على وجودنا!» سيهزون لك أكتافهم، و يعاملونك كطفل
صغير! في حين انك إذا قلت لهم: «الكوكب الذي أتى منه الأمير الصغير هو الكويكب ب
612» سيقتنعون مباشرة بكلامك، ولن يزعجوك بأسئلتهم أبدا.
هم
هكذا... لا يجب علينا لومهم، بل على الأطفال أن يكونوا متسامحين جدًّا معهم.
وبالطبع،
نحن من يعرف معنى الحياة، ولا نعير الأرقام أهمية! لقد أحببت القول إني وددت بدأ
سرد هذه القصة التي هي كالقصص الخيالية، و أحب أن أقول:
«كان يا مكان، في أحد الأوطان، أمير صغير يعيش على كوكب أكبر منه
بقليل، وهو في حاجة إلى صديق...»
سيكون
الأمر أكثر جدية لأولئك الذين يفهمون المعنى الحقيقي للحياة.
لأني
أكره قراءة كتابي باستخفاف، لأنه يخالجني حزن كبير عندما أسرد ذكرياتي، لقد مرت
ستة سنوات مذ رحل صديقي مع خروفه، لقد حاولت ذكره كي لا أنساه، كم محزن هو نسيان
الأصدقاء!
الجميع
ليس له أصدقاء، وأنا قد أصبح مثل الأشخاص الكبار الذين لا يهتمون سوى بالأرقام،
ولهذا السبب قمت بشراء علبة ألوان و أقلام رصاص، فمن الصعب جدًّا في مثل سني هذه
العودة إلى الرسم من جديد، خاصة أنه لم تكن لي محاولات غير تلك التي قمت بها من
قبل، وكانت عبارة عن أفعى البوا المغلقة، وأفعى البوا المفتوحة، لما كان عمري ستة
سنوات...
سأحاول
رسم بورتريه للأمير الصغير، وسأحاول جعله يشبهه كثيرا، لكني لست متأكدا بشكل كبير
من نجاحي في فعل ذلك، وأيضا كانت تقديراتي للطول نوعا ما غير دقيقة... هنا الأمير
الصغير كبير جدًّا، وهنا صغير جدًّا، وكنت مترددا أيضا بخصوص لون بدلته، بطريقة أو
أخرى تجدني محتارا بين هذا وذاك ... لن أكون دقيقا في التفاصيل ذات الأهمية
البالغة، لكن يجب غض النظر عن هذا، صديقي كان يظن أني مثله، لذلك لم يفسر لي شيئا
على طبيعته، ولسوء الحظ لا يمكنني أن أرى الخرفان وهم داخل
الصناديق! إذن ربما أنا مثل الأشخاص الكبار، لا شك في ذلك... قد كبرت!
الفصل
V
كل يوم أتعلم شيئا فشيئا –
وبتأملات عشوائية – أمور جديدة عن الكوكب الذي يسكنه الأمير الصغير، تارة عن
انطلاقه من الكوكب، وتارة أخرى عن رحلته، ففي اليوم الثالث تعرفت على قصة أشجار
«الباوباب» الاستوائية.
هذه المرة، ودائما بفضل
الخروف، سألني الأمير الصغير بطريقة يريد أن يقطع بها الشك باليقين:
- إن الأغنام
تأكل الشجيرات الصغيرة، هذا صحيح... أليس كذلك؟
- بلى...
- آها! هذا
جيد...
لم أفهم أهمية أكل الخرفان
للأشجار الصغيرة عند الأمير الصغير، وأضاف قائلا:
- إنهم
يأكلون شجر الباوباب أيضا؟
شرحت للأمير الصغير أن أشجار
الباوباب ليست صغيرة، وإنما كبيرة كالبنايات العالية، فحتى لو قام قطيع كامل من
الفيلة بأكل هذه الشجرة فلن ينهوها.
فكرة قطيع الفيلة جعلت
الأميرة الصغير يضحك كثيرا.
- يجب وضعهم
الواحد فوق الآخر...
لكنه بحكمة استخلص:
- أن أشجار
الباوباب في أولى مراحل نموها تكون صغيرة جدًّا.
- بالضبط!
لكن لماذا تريد للخرفان أن تأكل أشجار الباوباب الصغيرة؟
رد:
- حسنا! دعنا
نرى؟
وكأنها بديهية، وتطلب الأمر
مني مجهودا جبارا حتى أفهم الأمر لوحدي.
وكما هو معلوم فان في كوكب
الأمير الصغير، وكما هو على كل الكواكب الأخرى، توجد أعشاب نافعة، وأعشاب ضارة،
وأيضا بذور جيدة للأعشاب النافعة، وبذور ضارة للأعشاب الضارة، بطبيعة الحال لا
يمكننا رؤية هذه البذور لأنها تبقى نائمة داخل التربة إلى حين نموها، ستحاول
الظهور والاندفاع بشكل محتشم نحو الشمس، باعتبارها غصنا صغيرا غير مؤذ، خاصة إذا
كان لشجرة الفجل أو شجرة الورد، سنتركها تنمو بشكل طبيعي، أما إذا كان الأمر يخص
نبتة ضارة يجب علينا اقتلاعها أولَ ما نعرف أنها ضارة، وعليه فكوكب الأمير الصغير
مليء بالبذور الضارة لشجرة الباوباب التي غزت التربة هناك، وانتشرت جذورها في كل
مكان بشكل رهيب مسببة فوضى عارمة، لذا وجب علينا التخلص منها قبل أن يفوت الأوان و
تحدث كارثة؛ لأن الكوكب صغير، وتلك الأشجار كبيرة، وقد تفجره لو نمت عليه فيندثر.
«إنها مسألة
انضباط!» هذا ما قاله لي الأمير الصغير لاحقا، فبعد الانتهاء من تجميل مظهرنا في
الصباح يتوجب علينا الاهتمام بمظهر الكوكب أيضا، يجب أن نُعوِّد أنفسنا دائما على
اقتلاع نبتة الباوباب التي تشبه كثيرا أغصان الورد لما تكون في أولى مراحل نموها،
إنه عمل ممل للغاية لكنه سهل جدًّا.
في أحد الأيام نصحني أن قوم
برسم لوحة جميلة، تبين هذا الأمر بطريقة بسيطة حتى يستوعبه الأطفال في كوكبي.
«سيساعدهم
هذا كثيرا إذا صادف أن سافروا يوما ما» – قال لي
- لا ضير إذا
أجل المرء بعض الأعمال إلى وقت لاحق؛ لكن الأمر هنا يتعلق بأشجار الباوباب، لو حدث
فستكون كارثة!! أعرف كوكبا يقطنه شخص كسول، تهاون في اقتلاع ثلاث شجيرات...»
مع تعليمات الأمير الصغير،
قمت برسم هذا الكوكب، لا أحب أن ألبس ثوب الواعظ لكن هذه المرة كسرت تلك القاعدة؛
لأن خطورة أشجار الباوباب لا يعرفها إلا القليل، خاصة على كويكب صغير وقلت: «يا
صغار خذوا حذركم من أشجار الباوباب!» فقط لأنبه أصدقائي على خطر يحوم حولهم دون
سابق إنذار منذ وقت طويل، مثل ما حدث في تماما؛ لهذا تعبت كثيرا من أجل إتقان هذا
الرسم.
ولهذه النصيحة قيمة كبيرة
جدًّا، أكيد ستسألون : لماذا لا يوجد رسم آخر متقن في هذا الكتاب إلا لأشجار
الباوباب؟
الإجابة بسيطة جدًّا: حاولت
لكني لم أنجح، لأن دافع الحرص على الآخرين جعلني أرسم أشجار الباوباب بهذا
الإتقان.
الفصل
VI
أيها الأمير الصغير! لقد فهمت
تدريجيا أن حياتك مليئة بالأحزان، لم يكن لك عزاء سوى النظر إلى غروب الشمس
الرائع! عرفت هذا الأمر لما حدثتني في اليوم الرابع وقلت:
- أحب كثيرا
غروب الشمس، فلنذهب لتشاهده!
- لكن يجب
انتظار...
- انتظار
ماذا؟
– ننتظر حتى
يحين وقت غروب الشمس؟
بدت عليك الدهشة في أول
الأمر، ثم ضحكت كثيرا على نفسك وقلت:
- كنت أظنني
ما زلت على كوكبي ...
وكما هو معروف عند الجميع فان
وقت غروب الشمس في فرنسا يقابله منتصف النهار في الولايات المتحدة، فلو كان الأمر
يتطلب دقيقة واحدة فقط للذهاب من أمريكا إلى فرنسا لمواكبة غروب الشمس لكان الأمر
رائعا، لكن لسوء الحظ البلدان بعيدان جدًّا عن بعضها، ولا يسمح لنا قانون الطبيعة
بفعل ذلك. لكن على كوكبك أنت لا يتطلب الأمر سوى تحريك كرسيك بضع خطوات حتى يتسنى
لك رؤية الشفق كلما رغبت في ذلك.
- في أحد
الأيام رأيت غروب الشمس ثلاثا وأربعين مرة!
وبعد ذلك أضفت قائلا:
- هل تعلم أن
الإنسان لما يمر بفترات حزن تجده يعشق كثيرا مشاهدة غروب الشمس..؟
- إذن؛ اليوم
الذي شاهدت فيه غروب الشمس ثلاثا وأربعين مرة كنت حزينا جدًّا؟
لكن الأمير الصغير لم يجب على
سؤالي...
الفصل VII
في اليوم الخامس، ودائما بفضل
الخروف، تجلى لي سر حياة الأمير الصغير، ونتيجة لتأمله الطويل سألني فجأة دون سابق
إنذار:
- إذا كان
الخروف يأكل الشجيرات الصغيرة؛ فبكل تأكيد أيضا يأكل الأزهار؟
ثم أكمل:
- حتى الأزهار التي تحوي سيقانها شوكا؟
- نعم، حتى
الأزهار التي تحوي سيقانها شوكا.
- ما فائدة الأشواك إذن؟
- لا أعلم.
كنت مشغولا كثيرا بفك أحد
البراغي الذي كان مثبتا بطريقة محكمة في محرك طائرتي، كنت قلقا جدًّا؛ لأن العطب
الذي ألم بطائرتي كان يبدو بليغا؛ وما أقلقني أكثر هو تناقص ماء الشرب الذي بحوزتي.
- ما فائدة
الأشواك؟
لم يعتد الأمير الصغير أبدا
على تكرار نفس السؤال، ولأن ذلك البرغي أثار حفيظتي أصبحت أجيب على أسئلته بأي
كلام يخطر على ذهني دون تركيز:
- لا فائدة
ترجى من الأشواك، بل هي الجانب القبيح في الأزهار.
- نعم
لكن بعد فترة قليلة من الصمت
رد بنوع من الاستياء:
- لا أظن
ذلك! فالأزهار ضعيفة، ساذجة، تعمل على طمأنة نفسها طول الوقت، وتعتقد أنها تمتلك
سلاحا فتاكا؛ ألا وهو الأشواك.
لم أجبه، وفي هذه اللحظة قلت:
«إذا بقي هذا البرغي يقاوم، فسأقتلعه بمطرقة»!
شوش الأمير الصغير أفكاري
مجددا:
- وهل تظن أن
الأزهار...
- لا! لا! لا
أظن شيئا! لقد أجبت بأي كلام، أنا منشغل بأمور جدية!
حدق في وجهي بذهول:
- أمور جدية؟
كان يراني، والمطرقة بيدي، و
اللون الأسود قد شوه أصابعي نتيجة زيوت المحرك، وأنا منكب على شيء بدا له في غاية
القبح.
- أنت تتكلم
مثل الأشخاص الكبار؟
شعرت بالخجل قليلا، لكنه لم يأبه لذلك، وأضاف
قائلا:
- لا تميز أبدا بين الأشياء... أنت تخلط الأمور
ببعضها...
كان حقا غاضبا والرياح تهز
شعره الذهبي:
- أعرف أحد
الكواكب، حيث يقطن شخص قرمزي اللون؛ لم يسبق له أن شم زهرة في حياته، لم ير نجما،
ولم يحب أحدا، ولم يقم بشيء غير العمليات الحسابية، ودائما كان يكرر مثلك: «أنا
إنسان جدي! أنا إنسان جدي!» مما جعله يزداد غرورا... لكنه ليس إنسانا... إنه مثل
نبات الفطر.
- مثل ماذا؟
- مثل نبات
الفطر!
أصبح وجه الأمير الصغير شاحبا من شدة الغضب.
- منذ ملايين السنين تحوي الأزهار أشواكا، منذ
ملايين السنين تأكل الخراف أزهارا، وليس من الضرورة فهم لماذا تتعب هذه الأزهار في
إنتاج أشواك لا فائدة منها؟ الحرب بين الخرفان والأزهار ليست مهمة؟ ليست مهمة أبدا
العمليات الحسابية التي يقوم بها هذا الشخص القرمزي اللون؟ لو كنت أعرف زهرة وحيدة
وفريدة من نوعها في هذا العالم لا تنبت إلا على كوكبي، و يدمرها أحد الخرفان بقضمة
واحدة، من دون أن يعرف شناعة ما صنع... أليس هذا مهما؟
احمر وجهه وأضاف قائلا:
- لو أن أحدا
أحب زهرة لا يوجد لها مثيل بين ملايين النجوم، سيكون سعيدا جدًّا بمجرد أن ينظر
إليها ويقول: «زهرتي هنا في مكان ما...» لكن ماذا لو أكلها أحد الخرفان؟ ألا يعني
هذا أفول كل النجوم بالنسبة له؟ أليس هذا مهما؟
لم يضف شيئا وانفجر باكيا.
كان الليل قد أسدل ستائره، تركت عدتي والمطرقة التي كانت بيدي، البرغي الذي حاولت
جاهدا فكه، ولم أعد أفكر في العطش الذي ألم بي، ولا خطر الموت الذي يهددني... يوجد
على أحد النجوم، أحد الكواكب، كوكبي الأرض الأمير الصغير الذي يجب علي أن أقف
بجانبه وأواسيه! أخذته بين ذراعي، ربت عليه وقلت له: « الزهرة التي تحبها ليست في
خطر... سأرسم كمامة لخروفك... سأرسم قفصا لزهرتك...»
لم أكن أدري ما علي قوله في
مثل هذا الموقف، لم أعرف ما أصابني، لم أكن أعرف كيفية مواساته، حقا غامض هو ذلك
عالم الأحزان!
الفصل
VIII
سرعان ما عرفت الكثير عن هذا
النوع من الأزهار، يوجد منها الكثير على كوكب الأمير الصغير: هذه الزهور بسيطة
للغاية، مزينة بصف واحد من الأوراق، لا تشغل مكانا كبيرا، بالإضافة لعدم إزعاجها
لأي كان... ظهرت في أحد الأيام بين الأعشاب، وفي المساء اختفت! نبتت فقط ليوم
واحد، لبذرة لا ندري من أين أتت، ولقد رأى الأمير الصغير هذا البرعم الصغير الذي
يختلف عن البقية، وقام بمراقبته بشكل حذر مخافة أن يكون نوعا جديدا من أشجار
الباوباب، لكن الشجيرة توقفت كليا عن النمو وبدأت في إنتاج الأزهار، و كان الأمير
الصغير يشاهد هذه العملية، وينتظر خروج زهرة في غاية الروعة والجمال من هذا البرعم
الصغير، لكن الزهرة كانت تتباطأ في الخروج كي تتهيأ بشكل جيد، في غرفتها الخضراء
تلك تختار الألوان بعناية كبيرة، ترتدي ثوب الجمال ببطء، وتقوم بتنسيق بتلاتها؛
لأنها لا تريد الظهور بشكل مجعد مثل أزهار شقائق النعمان، بل الظهور في أبهى درجات
الجبال.
عملية التجميل السرية التي
قامت بها استغرقت أياما عديدة، وفجأة! في صباح أحد الأيام، عند شروق الشمس ظهرت
للعيان بعدما بذلت مجهودا جبارا من العمل والتركيز، قالت وهي تتثاءب:
- عذرا! لقد استيقظت لتوي ... لم أقم بتسريح
شعري بعد...
لكن الأمير الصغير لم يستطع إخفاء إعجابه:
- كم أنت جميلة!
- بطبيعة
الحال. (أجابت الزهرة بلطف) ولقد ولدت في نفس وقت طلوع الشمس.
عرف الأمير
الصغير أنها لم تكن على قدر كبير من التواضع، بالرغم من جمالها الأخاذ.
- على ما أظن
أنه حان وقت الإفطار، هل ستتكرم وتفكر في...
كان الأمير الصغير في غاية الخجل، أحضر مرشا به
ماء عذب وقام بسقي الزهرة...
وهكذا كانت تعذبه بغرورها
الزائد؛ لأنه كان شديد الحساسية؛ ففي أحد الأيام كانت تتكلم عن أشواكها الأربعة
وقالت:
- تستطيع النمور الوصول إلى هنا بمخالبها
الفتاكة تلك!
- لا توجد
نمور على كوكبي، بالإضافة أنها ليست من آكلي الأعشاب!
ردت عليه الزهرة بكل لباقة:
- لست عشبة!
- عفوا...
- لا أخاف
النمور، لكن أخاف التيارات الهوائية، هل لديك حاجز للحماية منها؟
(لكن الأمير
الصغير استنتج أن التيارات الهوائية لا تسبب خطرا على النباتات؛ لذا فان هذه الزهرة
أكثر تعقيدا من مثيلاتها...)
- في المساء
حاول أن تضعني داخل صندوق زجاجي؛ لأن البرد قارس جدًّا هنا، أما من حيث أتيت...
لكنها توقفت عن الكلام، لقد
وصلت إلى هنا و هي فقط بذرة، ولم يكن في مقدورها أبدا التعرف على ما حولها في
حالتها تلك..!
خجلت من نفسها كثيرا لأن
كذبتها الساذجة انكشفت، ثم سعلت مرتين أو ثلاثة حتى تشتت انتباه الأمير الصغير
وتداري فضيحتها...
- أين حاجز
الهواء؟
- سأحضره، لكنك كنت تقولين...
إذن؛ لقد بالغت في السعال حتى تلحق به شيئا من
الندم.
لكن الأمير الصغير راوده شك
كبير اتجاه هذه الزهرة رغم حبه الكبير لها، لقد حزن كثيرا لأنه أخذ على محمل الجد كلمات
لا أهمية لها أبدا.
«ما كان علي
أن أصدقها في كل كلمة قالتها، الأزهار تليق فقط للشم والمشاهدة، زهرتي هذه عطرت كوكبي
برائحتها الزكية. لكنني لم أستمتع بهذا قط، كان الأجدر بي أن لا أنزعج من قصة
المخالب، بل أستمتع بها »
قال لي مرة أخرى: «لم يعد في
مقدوري فهم أي شيء! من هنا فصاعدا سأحكم على الأفعال لا الأقوال، لقد استمتعت
كثيرا بعطرها ونورها، لا يجب أن أنسحب! لا يجب أن تخدعني مرة أخرى بحنانها الزائد!
إن الزهور شديدة التناقض ! لكنني كنت صغيرا جدًّا حتى أعرف أنني وقعت في حبها...»
الفصل IX
على ما أظن أنه استفاد كثيرا
من هجرة الطيور الموسمية حتى يهرب، في صباح اليوم الذي قرر فيه الذهاب قام بتنظيم
وترتیب كوكبه، وقام أيضا بتنظيف الفوهات البركانية بعناية شديدة؛ حيث كان اثنان
منها في حالة نشطة. كانت تساعد على تحضير افطار ساخن في الصباح، وكان هناك أيضا
بركان خامد، لكن كان دائما يقول: «لا نعلم أبدا ما سيحدث» من أجل هذا قام بتنظيف
البركان الخامد: «إذا تم الاعتناء بهم على أحسن وجه ستشتعل البراكين بهدوء
وبانتظام من غير ثوران؛ لأن هذا الأخير يكون مثل نيران المداخن.»
بطبيعة الحال نحن على كوكب
الأرض أصغر من أن نستطيع تنظيف فوهات البراكين، لأجل هذا تتسبب لنا في الكثير من
المتاعب.
بقليل من الحسرة قام الأمير
الصغير بقلع آخر براعم شجرة الباوباب المتواجدة على كوكبه، وكان يعتقد أنها لن
تعود مطلقا، لكن بدت له هذه الأعمال المألوفة له في ذلك الصباح في غاية اللين، وبعدما
قام بسقي الزهرة لآخر مرة ووضعها تحت الصندوق الزجاجي شعر فجأة برغبة في البكاء:
- الوداع...
مخاطبا الزهرة!
لكنها لم ترد عليه.
- الوداع...
أعاد قائلا.
سعلت الزهرة، ولم يكن ذلك بسبب نزلة برد
أصابتها، ثم ردت عليه قائلة:
- كنت غبية!
أرجوك سامحني... أتمنى لك السعادة من كل قلبي...
استغرب الأمير الصغير من ذلك
الموقف... إذ أن الزهرة لم تقم بشتمه بألفاظ نابية، بقي مشتت الذهن، حتى أن
الصندوق الزجاجي ظل مرفوعا بيده في الهواء.
لم يفهم هذا الهدوء اللطيف.
- نعم، أنا
أحبك - قالت له الزهرة - لم تكن تعرف شيئا عن خطئي، وهذا لم يكن له أي أهمية، لكنك
كنت أغبى مني، حاول أن تكون سعيدا.... واترك هذا الصندوق الزجاجي لا حاجة لي به.
- لكن
التيارات الهوائية...
- لست مزكومة
إلى هذه الدرجة، هواء الليل العليل يساعدني كثيرا؛ فأنا زهرة....
- وماذا عن
الوحوش..؟
- يجب أن
أتحمل يرقتين أو ثلاثة... هذا إذا كنت أود معرفة الفراشات عن كثب، لأنها جميلة
جدًّا.
وإلا من سيقوم برد الزيارة
لي؟ ستكون أنت بعيدا جدًّا... أما بخصوص الوحوش فلا أخاف منها، عندي أشواكي
ستحميني منها.
ثم أظهرت أشواكها الأربعة
بسذاجة وقالت:
- لا تحدق هكذا،
إنه فعلا لأمر مزعج، أنت قررت الذهاب، فارحل إذن.
لأنها لم تود أن يراها تبكي،
فهي زهرة شديدة الاعتزاز بنفسها.
الفصل X
يتواجد في المنطقة المحيطة
بالأمير الصغير الكويكبات: 326. 327 .328 329. و30 3. لذا قام بزيارتها من أجل
الاستكشاف وتعلم أشياء جديدة.
الكويكب الأول كان يسكنه ملك
يجلس على عرشه البسيط، ذو شخصية قوية، يرتدي ملابس أرجوانية وفرو ابن عرس قاتم
اللون.
- آها! أحد
الرعايا أخيرا - هذا ما قاله الملك بمجرد أن رأى الأمير الصغير -
لكن الأمير الصغير انطبعت على
وجهه علامات التعجب وقال لنفسه:
«كيف عرفني وهو
لم يرني من قبل!؟ »
- اقترب حتى أراك جيِّدا.
كان هذا طلب الملك من الأمير
الصغير، لقد كان جد سعيد لأنه ملك على أحد الأشخاص.
ألقى الأمير الصغير نظرة
سريعة على المكان؛ حتى يجد مكانا للجلوس، لكن دون جدوى؛ فمعطف الفرو يشغل حيزا
كبيرا على هذا الكوكب؛ فبقي واقفا، ولأنه منهك تثاءب من شدة التعب.
- إن ما قمت
به ينافي الأعراف؛ أن تتثاءب أمام ملك، إني أحذرك أن تفعل هذا ثانية!
رد عليه الأمير الصغير مع
القليل من الارتباك:
- لا أستطيع المقاومة، لقد قمت برحلة طويلة، ولم
يتسن لي النوم مطلقا...
- إذن آمرك
أن تتثاءب، لم أر شخصا يفعل ذلك منذ سنين عدة عندي فضول كبير اتجاه التثاؤب، هيا!
تثاءب الآن، إني آمرك...
- الأمر ليس
بيدي، لا أستطيع.
رد الأمير الصغير وقد احمر وجهه.
- ممم! ممم! إذن آمرك تارة بالتثاؤب... وتارة
أخرى....
بدا على الأمير الصغير
الانزعاج قليلا؛ لأن الملك كان شديد الحرص أن تطبق أوامره حرفيا، ولا يتسامح أبدا
مع من يعصيها... إنه ملك مستبد، لكنه جيد؛ لأن أوامره معقولة ومقدور عليها، حيث
كان يردد:
« إذا أمرت
الجنرال أن يتحول إلى عصفور بحري ولم يفعل ذلك، فالخطأ ليس خطأه؛ بل خطئي أنا.»
- هل بإمكاني
الجلوس؟
كان استفسار الأمير الصغير على استحياء.
- آمرك
بالجلوس...
كان رد الملك وقد سحب طرفا من
معطف الفرو الذي يرتديه.
لكن الأمير الصغير طرح سؤالا
على نفسه:
من و ماذا يحكم هذا الملك على هذا الكوكب الصغير
جدًّا!؟
ثم رد على الملك:
- آسف يا مولاي، أريد الاستفسار..
- آمرك أن
تسألني.
هذا ما سارع به الملك من قول.
- سيدي، حكمكم على من؟
- على كل
شيء.
كان رد الملك بكل بساطة.
- كل شيء؟
أشار الملك إلى كوكبه، وكل الكواكب المحيطة،
وكذلك النجوم.
- على كل
هذا؟
قال الأمير الصغير.
- نعم. على كل
هذا.
أجابه الملك.
لم يكن فقط ملكا مستبدا، بل
كان ملكا کونیا.
- هل ترضخ النجوم لأوامركم؟
- بطبيعة
الحال، يطيعون أوامري لأنني لا أتسامح أبدا مع من يعصيها.
أذهل الأمير الصغير ما عليه هذا الملك من سلطان،
فلو كان مثله لما شاهد أربعة و أربعين غروبا فقط؛ بل اثنين وسبعين غروبا، و ربما
مائة أو مائتي غروب شمس في اليوم الواحد من غير أن يحرك كرسيه! ولأنه كان حزينا
لفراق كوكبه وما ترك عليه من ذكريات؛ حاول طلب شيء من ملك هذا الكوكب:
- هل لي
بمشاهدة غروب الشمس على كوكبكم، أسد لي معروفا، وأمر الشمس أن تغيب.
- إذا أمرت
الجنرال أن يحلق من زهرة إلى أخرى وكأنه فراشة، أو أن يكتب نصا تراجيديا، أو أن
يتحول إلى طائر بحري ولم ينصع إلى أوامري، من سيكون على خطأ أنا أم هو؟
- ستكونون
أنتم.
رد الأمير الصغير بكل ثقة في النفس.
- بالضبط،
يجب أن نطلب من كل شخص على حسب قدرته، فالسلطة تقوم على العقل. إذا طلبت من شعبك
أن يلقوا بأنفسهم في البحر فسيقومون بثورة ضدك، من حقي أن أطالب بالطاعة لأن
أوامري معقولة.
- وماذا عن
غروب الشمس الذي طلبته منكم؟
ذكره الأمير الصغير بطلبه؛
حيث أنه لا ينسى أبدا سؤالا طرحه من قبل.
- ستحصل على مبتغاك،
لكن سأنتظر إلى أن تكون الظروف ملائمة.
- ومتى سيكون
ذلك؟
- ممم! ممم!-
رد عليه الملك وهو يتفحص رزنامة كبيرة للأشهر
- ممم! ممم !
سيكون ذلك في ... في...سيكون ذلك خلال هذا المساء حوالي الساعة السابعة وأربعين
دقيقة. وسترى كيف تطبق أوامري.
تثاءب الأمير الصغير، ولقد
شعر قليلا بالملل ثم تحسر على غروب الشمس الذي كان يراه على كوكبه ثم قال للملك:
- ليس لدي ما
أعمله هنا، سأغادر.
- لا تذهب،
لا تذهب أنا جد فخور لأني وجدت أحدا أحكمه سأجعلك وزيرا!
- وزير ماذا؟
- وزير ....
وزير العدالة !
- لكن لا
يوجد أي شخص كي أحكم عليه.
- لا أحد
يعلم كم من شخص يوجد في مملكتي، فأنا لم أقم بعد بجولة كاملة لتفقدها، كما تعلم
أنا رجل مسن ولا أقدر على المشي، وكذلك لا يوجد مكان لأحتفظ بأي وسيلة نقل على هذا
الكوكب.
رد الأمير الصغير عليه، وهو
يلوح بنظره إلى الجهة الأخرى من الكوكب:
- لكنني
تأكدت من الأمر بنفسي، لا يوجد أحد إطلاقا.
- إذن ستحاكم
نفسك، وهذا أصعب من أن تحاكم الغير. وإذا نجحت في ذلك ستكون حكيم زمانك.
- يمكنني
الحكم على نفسي في أي مكان، كما أنني لست مضطرا اللعيش هنا.
- ممم! ممم!
على ما أظن أنه يوجد في أحد زوايا هذا الكوكب فأر مسن، سمعت تحركاته في الليل.
تستطيع أن تحاكمه أنت، تستطيع أن تحكم عليه بالسجن المؤبد؛ فحياته رهن عدالتك. كما
يمكنك العفو عنه، لكن يجب أن تعلم أن بيدك الحق في العفو مرة واحدة.
- ومن أنا؟؟
لا أحب فعل ذلك... وأعتقد أنه يتوجب علي الذهاب.
- لا.
رد عليه الملك.
لكن الأمير الصغير لما انتهى
من استعداداته لم يهن عليه أن يترك الملك العجوز على تلك الحالة.
- لكن، لو أن
فخامتكم تطلبوا مني أن أقوم بأمور معقولة لفعلت ذلك، مثلا؛ لو أنكم تأمرونني
بالمغادرة في غضون دقيقة سأفعل ذلك على الفور؛ لأن كل الأمور مواتية.
لم يجب الملك، لكن الأمير
الصغير أخذ بزمام الأمور وقال:
- سأعينك سفيرا لكوكبي!
فصاح الملك من شدة الفرح؛ لأنه أخيرا أصبح يمتلك
سلطة.
«الأشخاص
الكبار غريبو الأطوار!» هذا ما كان يردده الأمير الصغير خلال تجواله.
الفصل XI
كان الكوكب الثاني يقطنه شخص
مغرور.
- آها! لدينا زيارة من معجب هنا...
هذا ما قاله ذلك الشخص المغرور عندما لمح الأمير
الصغير قادما من بعيد.
لأن الأشخاص المغرورين يظنون
أن كل الناس معجبون بهم.
بادر الأمير الصغير بالتحية:
- مرحبا، قبعتك ظريفة للغاية !
- هي كذلك من أجل تحية الغير، للأشخاص الذين
يهتفون لي؛ لكن لسوء الحظ لا أحد يمر من هنا.
رد عليه الأمير الصغير، ولم
يفهم شيئا مما سمع.
- آها ! هكذا إذن.
- اضرب يدك بالأخرى.
كان طلب المغرور من الأمير
الصغير.
ضرب الأمير الصغير يديه
ببعضها، فرفع له ذلك المغرور القبعة بلباقة.
«إن هذا
لممتع ! أفضل من زيارتي للملك.» هذا ما همس الأمير الصغير لنفسه، وقام بضرب يديه
ببعضها مرة أخرى، فحياه المغرور ثانية برفع قبعته . بعد خمس دقائق تعب الأمير
الصغير من تكرار الأمر ثم قال:
- ما الذي
يجب فعله كي تسقط هذه القبعة؟
لكن المغرور لم يسمع الأمير الصغير؛ لأنه فقط
يسمع المجاملات، ثم سأل قائلا:
- هل حقا أنت
معجب بي كثيرا؟
- ماذا يعني
معجب بك ؟
- معجب بي
يعني أنك تعترف أنني الأجمل، الأنيق، الغني والأكثر ذكاء على هذا الكوكب.
- لكنك هنا
لوحدك على كوكبك؟
- أسد لي
معروفا... حاول أن تعجب بي.
هز الأمير الصغير كتفيه وقال:
- أنا معجب بك! لكن ما فائدة ذلك؟
غادر الأمير الصغير ذلك
الكوكب متعجبا «إن الأشخاص الكبار غريبو الأطوار!»
الفصل XII
الكوكب التالي كان يقطنه مدمن
خمر، هذه الزيارة كانت قصيرة جدًّا، لكنها جعلت الأمير الصغير حزينا للغاية .
- ماذا تفعل
هنا؟
هذا ما قاله الأمير الصغير
لذلك المدمن الجالس أمام قوارير فارغة و أخرى ملأى.
- أشرب.
رد مدمن الخمر بكآبة.
- ولماذا
تشرب؟
- كي أنسي.
سأل الأمير الصغير، وهو يشعر بالأسى اتجاهه:
- تنسى ماذا؟
رد السكير مطأطئا الرأس:
- کي أنسى
العار الذي أنا فيه.
- أي عار؟
كان سؤال الأمير الصغير الذي يريد مساعدة السكير
من وراءه.
- عار شرب
الخمر...
ثم أطبق المدمن صامتا.
غادر الأمير الصغير هذا
الكوكب محتارا وقال لنفسه «الأشخاص الكبار غريبو الأطوار!» .
الفصل XIII
كان الكوكب الرابع خاصا برجل
أعمال، ومن شدة انشغال هذا الرجل لم يرفع حتى رأسه في لحظة قدوم الأمير الصغير.
بادر الأمير الصغير بإلقاء
التحية قائلا:
- مرحبا! لقد
انطفأت سجارتك.
- ثلاثة زائد
اثنين تساوي خمسة، خمسة زائد سبعة تساوي اثني عشر، اثنا عشر زائد ثلاثة تساوي خمسة عشر... مرحبا! خمسة عشر زائد سبعة
تساوي اثنين وعشرين، اثنان وعشرون زائد ستة تساوي ثمانية وعشرون... ليس لدي وقت كي
أعيد إشعالها... ستة وعشرون زائد خمسة تساوي واحدا وثلاثين، أف..! إذن؛ المجموع هو
خمسمائة مليون وستمائة واثنان وعشرون ألفا وسبعمائة وواحد وثلاثون.
- خمسمائة
مليون ماذا؟
- نعم...
مازلت هنا؟ خمسمائة مليون... لا أعرف... عندي عمل كثير! أنا إنسان عملي، ولا
تشغلني الأحاديث الفارغة! اثنان زائد خمسة تساوي سبعة...
- خمسمائة مليون
ماذا؟
أعاد الأمير الصغير السؤال مع
أنه غير متعود على هذا.
رفع رجل الأعمال رأسه وقال :
- منذ أربع
وخمسين سنة وأنا أسكن هذا الكوكب، لم يتم إزعاجي إلا ثلاث مرات: كانت الأولى منذ
اثنتين وعشرين سنة، من طرف خنفساء، الله أعلم من أين أتت محدثة ضجة كبيرة، مما
جعلني أحدث أربعة أخطاء في عملية الجمع، الثانية كانت منذ إحدى عشرة سنة بسبب
الروماتيزم؛ لأني لا أمارس الرياضة وليس لدي وقت للمشي، أنا إنسان جاد، المرة
الثالثة ها هنا! كنت أقول إذن خمسمائة وواحد مليون...
- مليون
ماذا؟
عرف رجل الأعمال أنه لا مفر
من أسئلة الأمير الصغير:
- ملايين من الأشياء الصغيرة التي نراها في
السماء.
- ذباب؟
- لا... لا،
أشياء صغيرة تلمع.
- نحل؟
- لا... لا،
أشياء صغيرة ذهبية تلمع، تجعل من الكسالى حالمين، لكنني شخص جدي! وليس لدي الوقت
لأحلم.
- آها ! هل
هي النجوم؟
- نعم هي
النجوم.
- وماذا تفعل
بخمسمائة مليون نجم؟
- خمسمائة
مليون وستمائة واثنان وعشرون ألف وسبعمائة وواحد وثلاثون، أنا جاد ودقيق جدًّا.
- وماذا تفعل
بهذه النجوم!؟
- ماذا أفعل
بها؟
- نعم
- لا شيء،
أمتلكها فقط.
- تمتلك
النجوم؟
- نعم
- لكنني رأيت
ملكا...
- الملوك لا
يمتلكون بل «يسودون» والأمران مختلفان.
- وماذا يفيدك امتلاك النجوم؟
- يجعلني هذا الأمر غنيا.
- غناك هذا فيما يفيدك ؟
- يفيدني هذا
في شراء نجوم أخرى إذا وجدت.
حدث الأمير الصغير نفسه
قائلا: «إن هذا الشخص يفكر مثل السكير الذي مر علي!»
ثم طرح أسئلة أخرى:
- كيف يمكننا
امتلاك النجوم؟
رد رجل الأعمال بغضب على الأمير الصغير.
- و لمن هذه النجوم؟
- لا أدري،
ليست لأحد.
- إذن هي ملكي؛ لأنني أول من فكر في امتلاكها.
- وهل هذا كاف حتى تمتلك النجوم؟
- بالطبع، فلما
تجد ماسة ليست لأحد فهي ملكك، لما تجد جزيرة ليست لأحد فهي ملكك، لما تكون لك فكرة
وتحصل على براءة اختراع فهي ملكك... وأنا أمتلك النجوم لأنه لا يوجد شخص فكر في
ذلك من قبل.
- هل هذا
صحيح؟ ماذا ستفعل بها؟
- أديرها، أعدها، وأعيد عدها، هذا صعب... لكنني
شخص جاد.
لكن الأمير الصغير لم يقتنع
بذلك وقال:
- أنا لو كان
لي وشاح للففته حول عنقي وأخذته معي، لو كانت لي زهرة لقطفتها وأخذتها معي، لكن
أنت لا تستطيع قطف النجوم!
- صح كلامك،
لكنني أستطيع إيداعها في البنك.
- ماذا تعني
!؟
- هذا يعني
أنني أكتب عدد النجوم على ورقة، أضعها في الدرج، وأغلق عليها بالمفتاح.
- وهل هذا
كاف؟
- نعم، هذا يكفي.
قال الأمير الصغير محدثا
نفسه: «هذا مسل! ويخلو من الشاعرية، لكن الأمر ليس جِدِّیا»
كانت نظرة الأمير الصغير
للأمور الجدية مختلفة تماما عن تلك التي يمتلكها الأشخاص الكبار وقال:
- أنا أمتلك
زهرة أسقيها كل يوم، أمتلك ثلاثة براكين أقوم بتنظيفها كل أسبوع حتى الخامد منها،
إذن أنا مفید لبراكيني وزهرتي، لكنك لست مفيدا للنجوم...
فتح رجل الأعمال فمه ليجيب،
لكن لا يوجد أحد... فالأمير الصغير قد غادر!
«الأشخاص
الكبار ليسوا عاديين!» محدثا نفسه
خلال سفره.
الفصل XIV
كان الكوكب الخامس غريب جدًّا،
كان أصغرهم جميعا. كانت المساحة هناك تتسع فقط لمصباح شوارع، إضافة لشخص يشغل هذا المصباح. لم يتمكن الأمير الصغير من تفسير الأمر...
في مكان ما في السماء، على كوكب لیس به منزل ولا أناس إلا مصباح شارع أو الرجل
الذي يشغل ذلك المصباح!! لكنه قال في نفسه:
«ربما يكون
هذا الشخص سخيفا، ومع ذلك فهو أقل سخافة من الملك، و المغرور، ورجل الأعمال، وكذلك
السكير..! على الأقل يقوم بشيء له معنى؛ فلا يضيء مصباح الشارع وكأنه أضاف نجمة أو
زهرة، أما حين يطفئه فذلك يساعد النجمة أو الزهرة على النوم... هذا العمل جميل جدًّا،
و لأنه كذلك فهو مفيد.»
عندما حط الأمير الصغير رحاله
على الكوكب بادر بالتحية للرجل مشغل المصابيح:
- صباح
الخير! لماذا قمت بإطفاء مصباحك؟
- إنها التعليمات، صباح الخير!
- وماذا تعني بالتعليمات ؟
- التعليمات هي أن أطفئ المصباح، مساء الخير!
ثم أعاد تشغيله.
- ولماذا قمت بإعادة تشغيله؟
- إنها
التعليمات. رد مجددًا
- لم أفهم
شيئا. كان رد الأمير الصغير
- لا جدوى من
الاستفسار عن الأمر، فالتعليمات هي التعليمات، صباح الخير .
و أطفأه مرة أخرى.
مسح جبينه بمنديل به مربعات
حمراء وقال :
- إنني أقوم
بعمل مريع... في الماضي كان معقولا؛ أقوم بتشغيل المصباح في المساء وأطفئه في
الصباح، وأتخذ سبيلا للراحة بين ذلك وبقية الليل أنام فيه.
- وهل تغيرت
التعليمات منذ تلك الحقبة؟
- التعليمات
لم تتغير، وهنا المشكلة؛ فالكوكب تزيد سرعة دورانه من سنة إلى أخرى والتعليمات لم
تتغير !
- إذن؟ سأل
الأمير الصغير.
- الآن يدور
الكوكب دورة كل دقيقة وليس لدي ثانية واحدة كي آخذ قسطا من الراحة... أشعله وأطفئه
كل دقيقة !
- هذا مضحك!
اليوم هنا يدوم دقيقة واحدة.
- ليس مضحكا أبدا!! منذ شهر
ونحن نتكلم مع بعضنا.
- منذ شهر!؟
- نعم،
ثلاثون دقيقة تعني ثلاثين يوما... صباح الخير!
ثم قام بتشغيل مصباحه .
نظر الأمير الصغير لهذا الرجل
مشغل المصابيح، وأحبه كثيرا؛ لأنه وفيٌّ، ويتقيد بالتعليمات، وتذكر لحظات الغروب
على كوكبه لما كان يحرك كرسيه لمشاهدة ذلك، وجال في خاطره أن يساعد صديقه هذا:
- هل تعلم أن
لدي طريقة تجعلك ترتاح وقت ما تشاء؟
- طبعا أريد معرفتها.
يمكن أن نكون في بعض الأحيان
أوفياء وكسالى في نفس الوقت. ثم أضاف الأمير الصغير قائلا:
- إن كوكبك
صغير جدًّا، ويمكنك قطعه كاملا بثلاث خطوات فقط، إذن امش ببطء حتى تبقى في حيز
الشمس، وإذا أردت الاستراحة ما عليك سوى أن تمشي... وهكذا ستتحكم في وقت النهار
كيفما شئت.
- لن يغير
هذا في الأمر شيئا؛ فأنا أحب شيء لي في هذه الحياة هو النوم.
- لا يوجد
خيار آخر. قال الأمير الصغير.
- لا يوجد
خيار آخر، صباح الخير.
وأطفأ مصباحه .
تابع الأمير الصغير رحلته وهو
يحدث نفسه قائلا: «هذا الشخص أقل سخافة من الآخرين؛ من الملك، من المغرور، من
السكير، وحتى من رجل الأعمال ... من بينهم جميعا هو الوحيد الذي لا يبدو سخيفا،
ربما لأنه منشغل بأشياء أخرى وليس منشغلا بنفسه. »
تنفس بعمق وأضاف قائلا:
« الوحيد من
بين الجميع الذي كان بالإمكان اتخاذه صديقا، لكن للأسف كوكبه صغير ولا يتسع
لشخصين...»
ما لم يصرح به الأمير الصغير
هو أن السبب الرئيسي لإعجابه بهذا الكوكب هو الألف وأربعمائة وأربعون غروبا للشمس
في الأربع والعشرين ساعة!!
الفصل XV
الكوكب السادس كان كوكبا أوسع
بعشر مرات، وكان يقطنه عجوز يؤلف كتبا هائلة الكبر.
قال العجوز لما رأى الأمير
الصغير:
- ها هنا
لدينا مستكشف!
جلس الأمير الصغير على
الطاولة؛ ليسترد أنفاسه من طول السفر.
من أين أتيت؟ كان سؤال الرجل
العجوز.
- يا له من كتاب ضخم! ماذا تفعل
هنا؟
- أنا جغرافي. قال الرجل
العجوز.
- ماذا يعني
جغرافي؟
- الجغرافي
هو العالم الذي يعرف أين تقع البحار، الوديان، المدن، الجبال والصحاري.
- هذا مثير
للغاية! قال الأمير الصغير. أخيرا مهنة حقيقية!
وألقى نظرة حول كوكب الجغرافي
الذي لم ير كوكبا مهيبا مثله من قبل، وقال:
- إن كوكبك
رائع، هل توجد به محيطات؟
- لا أستطيع
معرفة ذلك. كان رد الجغرافي.
- آها! - قد
أحبط هذا الرد الأمير الصغير - وماذا عن الجبال؟
- لا أستطيع
معرفة ذلك. قال الجغرافي.
- وماذا عن
المدن والوديان و الصحاري؟
- ولا يمكنني
معرفة ذلك أيضا.
- لكن أنت
الجغرافي؟
- بالضبط،
لكنني لست مستكشفا، و أنا أفتقر إلى مستكشفين، لأنه ليس من وظيفة الجغرافي أن يحسب
عدد المدن، الوديان، الجبال، البحار، المحيطات والصحاري. فهو أرفع من ذلك، حيث أنه
لا يغادر مكتبه، لكنه يستقبل المستكشفين ويستفسر منهم، ويأخذ بعين الاعتبار
مذكراتهم، فإذا جلب أحدهم انتباه الجغرافي جعل مذكراته محط اهتمام، وقبل كل ذلك
يجب أن يتحقق من أخلاق هذا المستكشف...
- لماذا كل
هذا؟
- لو كان هذا
المستكشف كذابا فستكون هناك كوارث كبرى في كتب الجغرافيين، ونفس الأمر ينطبق على
المستكشف السكير.
- لماذا هذا؟
- لأن السكارى
يرون الأشياء مزدوجة، وعليه فالجغرافي سيحدد جبلين مكان الواحد.
- أعرف أحدهم
ومن الممكن أن يكون رديئا. قال الأمير الصغير.
- ممكن،
فكلما كانت أخلاق المستكشف جيدة يتوجب علينا التحقق من استكشافاته.
- سنرى.
- إن الأمر
معقد للغاية؛ إذ يتوجب علينا أن نشترط على المستكشف براهين إذا كان الأمر مثلا
يتعلق باكتشاف جبل كبير فيجب عليه أن يحضر حجارة كبيرة منه.
انفعل الجغرافي فجأة وقال:
- أنت أتيت
من بعيد! إذن أنت مستكشف! عليك أن تصف لي كوكبك!
فتح الجغرافي سجله، وبرى قلم
الرصاص، فمذكرات المستكشفين تدون بقلم الرصاص أولا؛ حتى يتم التأكد من صحتها، ثم
تعاد كتابتها بقلم الحبر.
- إذن؟ سأل
الجغرافي.
- ليس مهما
وصف كوكبي؛ لأنه صغير جدًّا، عليه ثلاثة براكين؛ اثنان منها نشطان، والثالث خامد.
لكن لا أحد يعلم.
- لا أحد
يعلم. قال الجغرافي.
- عندي أيضا
زهرة.
- نحن لا
نقيد الأزهار.
- لماذا هذا؟
إنها أجمل ما في الأمر؟
- لأنها
زائلة.
- ماذا تعني
« زائلة » ؟
- كتب
الجغرافيا الأكثر أهمية من بين جميع الكتب؛ لأنه ليس لديها وقت صلاحية محدد، فمن
النادر جدًّا أن يغير جبل مكانه، ومن النادر جدًّا أن تجف مياه المحيطات، نحن نوثق
أشياء أزلية.
- لكن
البراكين الخامدة يمكنها أن تثور. وأضاف الأمير الصغير سائلا :
- ماذا تعني
« زائلة »؟
- إذا كانت
البراكين خامدة أو ثائرة فالأمر سيان عندنا، فما يهمنا فقط الجبال التي تحوي تلك
البراكين.
- لكن ماذا
تعني « زائلة » ؟ نفس السؤال الذي أعاده الأمير الصغير الذي لم يعد سؤالا طرحه من
قبل.
- معنى ذلك
أنها مهددة بالاختفاء قريبا.
- زهرتي
مهددة بالاختفاء قريبا؟
- طبعا.
قال الأمير الصغير: «زهرتي
زائلة، ولديها فقط أربعة أشواك تدافع عن نفسها بهم! ولقد تركتها وحيدة هناك ! »
كانت أول مرة يبدي فيها
الأمير الصغير ندمه، لكنه تشجع وقال سائلا:
- ما المكان
الذي تنصحني بزيارته؟
- زر كوكب
الأرض، فسمعته طيبة للغاية.
رحل الأمير الصغير وباله
منشغل بزهرته.
الفصل XVI
الكوكب السابع إذن كان كوكب
الأرض.
كوكب الأرض ليس كباقي الكواكب
! عليه مائة وأحد عشر ملكا (من دون أن ننسى الملوك السود)، سبعة آلاف جغرافي،
تسعمائة ألف من رجال أعمال، سبعة ملايين ونصف المليون من السكارى، ثلاثمائة وأحد
عشر مليونا من المغرورين... ما يقارب مليارين من الأشخاص الكبار.
كي أعطيكم فكرة جيدة عن
مواصفات الأرض يجب أن تعرفوا أنه قبل اختراع الكهرباء كان يجب علينا توفير جيش
كبير من مشغلي المصابيح في القارات الست يقدر عددهم بأربعمائة واثنين وستين ألفا
وخمسمائة وأحد عشر.
مشاهدتهم من بعيد تترك أثرا
رائعا! فحركات هذا الجيش منتظمة مثل راقصي البالي، أوَّلا يقوم مشغلو المصابيح من
نيوزيلاندا وأستراليا بإنارتها، ثم يخلدون للنوم بعد ذلك يأتي الدور على أولئك
الذين من الصين وسيبيريا لأداء رقصتهم، ثم يختفون وراء الكواليس بعدهم يأتي دور
مشغلي مصابيح روسيا والهند، ثم أمثالهم من إفريقيا وأوروبا، بعدهم مشغلو المصابيح
من أمريكا الجنوبية، فأمريكا الشمالية. لا أحد منهم يخطئ توقيته، إنه أمر عظيم!
فقط مشغل المصابيح من القطب
الشمالي وزميله من القطب الجنوبي يعيشان حالة من الكسل واللامبالاة، يعملان فقط
مرتين في السنة.
الفصل XVII
عندما نخلق جوا من البراعة
يتوجب علينا الكذب، لم أكن صادقا لما كلمتكم على مشغلي المصابيح. ولقد خاطرت
بإعطاء فكرة خاطئة عن كوكبنا لهؤلاء الأشخاص الذين لا يعرفونه، البشر يشغلون حيزا
صغيرا على كوكب الأرض. لو أن ملياري شخص وقفوا مترادفين كما لو أنهم في تجمع
لكفتهم مساحة مربعة طول ضلعها عشرون ألفا، وعليه يمكننا تجميع سكان الأرض على أصغر
جزيرة في المحيط الهادي.
الأشخاص الكبار طبعا لن
يصدقوا هذا، يعتقدون أنهم يشغلون حيزا أكبر. كذلك يظنون أنفسهم مهمين مثل شجر
الباوباب، انصحهم إذن بعمليات حسابية لأنهم يعشقون الأرقام، لكن لا داعي لهدر وقتك
في هذا العمل الروتيني الذي لا جدوى منه... لا بد أنك تثق بي ..!
لما حل الأمير الصغير على
الأرض تفاجأ بعدم وجود أي شخص عليها، وخوفه كان أنه أخطأ وجهته. عندما انعكس ضوء
القمر على الرمال قال الأمير الصغير:
- ليلة
سعيدة!
- ليلة
سعيدة!
رد عليه الثعبان.
- ما هذا
الكوكب الذي نزلت عليه؟
سأل الأمير الصغير
فكان رد الثعبان كالتالي:
- على الأرض،
في قارة إفريقيا.
- آها ! لا أحد يقطن الأرض إذن؟
- هنا
الصحراء، وعادة الناس لا يسكنون الصحراء، إن الأرض كبيرة جدًّا...
جلس الأمير الصغير على صخرة،
ورفع عينيه إلى السماء وقال:
- عندي
استفسار؛ ماذا لو أن النجوم تضيء إلى أن يجد كل شخص نجمته؟ انظر كوكبي فوقنا
مباشرة... لكنها بعيدة!
- إنه كوكب
جميل، ماذا أتيت تفعل هنا؟
- عندي مشاكل
مع زهرة.
- آها ! قال
الثعبان
ثم سكتا لبرهة، واسترسل
الأمير الصغير الحديث قائلا:
- أين
الناس!؟ إننا وحيدان هنا في الصحراء.
- وستشعر
بالوحدة أيضا بينهم...
حدق الأمير الصغير في الثعبان
طويلا ثم قال:
- إنك وحش غريب!
تبدو مثل أصبع رقيق.
- لكنني أقوى
من أصبع ملك.
ابتسم الأمير الصغير وقال:
- لست بهذه
القوة... ليس لديك حتى أرجل... وعليه لا يمكنك السفر...
- أستطيع
السفر بك أبعد من باخرة.
التف الثعبان حول ساق الأمير
الصغير كأنه سوار ذهبي وقال:
- من ألمسه
أعيده إلى الأرض من حيث أتى، لكن يبدو أنك نقي السريرة... لقد أتيت من نجمة...
لم يرد الأمير الصغير عليه؛
فأضاف الثعبان :
- إني مشفق
على عالمك، إنك ضعيف هنا على أرض الغرانيت هذه... سأساعدك في أحد الأيام إذا أظهرت
ندما على مغادرة كوكبك، أستطيع أن...
- لقد فهمت،
لكن لماذا دائما كلامك مليء بالألغاز؟
- أستطيع حل
جميع الألغاز. قال الثعبان.
وأطبق الصمت.
الفصل XVIII
عبر الأمير الصغير الصحراء،
ولم يقابل خلالها إلا زهرة ذات ثلاث بتلات، زهرة لا شيء...
- مرحبا!
قال الأمير الصغير.
- مرحبا!
- أين الناس؟
سأل الأمير الصغير بكل لباقة.
رأت الزهرة في أحد المرات
قافلة مرت بالقرب منها.
- الناس؟ نعم
موجودون. على ما اعتقد يوجد ستة أو سبعة. رأيتهم منذ سنين، لكن لا نعرف مكان
تواجدهم. تحملهم الريح لأنهم لا يمتلكون جذورا، وهذا يعيقهم كثيرا.
- الوداع!
قال الأمير الصغير.
- الوداع!
الفصل XIX
تسلق الأمير الصغير جبلا
شاهقا لم ير مثله من قبل فهو يعرف فقط البراكين الثلاثة التي يصل طولها إلى ركبته،
حتى أن البركان الخامد كان يتخذه مقعدا. وحدث نفسه قائلا: «على جبل شاهق مثل هذا
يمكنني - بنظرة واحدة - مشاهدة الكوكب كاملا وكل الناس...» لكنه لم ير سوى الصخور
المسننة.
- مرحبا! قال
هكذا
- مرحبا،
مرحبا مرحبا! رد عليه صدى الجبل.
- من أنت؟
قال الأمير الصغير.
- من أنت؟ من
أنت؟ من أنت؟ كان رد الصدى.
- كونوا
أصدقائي، أنا وحيد.
- أنا وحيد،
أنا وحيد، أنا وحيد.
كان رد الصدى.
«يا له من
كوكب غريب! جاف، مسنن ومالح! وينقص الناس الخيال، يرددون ما نقول لهم... على كوكبي
عندي زهرة: دائما تبادر بالكلام...»
الفصل XX
قطع الأمير الصغير مسافات
كبيرة عبر الرمال، الصخور والثلوج، إلى أن اكتشف طريقا، وكل الطرق تؤدي إلى البشر.
- مرحبا! قال
الأمير الصغير.
إنه بستان مليء بالأزهار.
- مرحبا! ردت عليه الأزهار.
نظر إليها الأمير الصغير،
كلها كانت تشبه زهرته. ثم سأل الأمير الصغير وقد انتابته حالة من الذهول:
- من أنتم!؟
- نحن
الأزهار.
- آها ! قال
الأمير الصغير.
كان يشعر بالأسى؛ لأن زهرته
أخبرته من قبل أنها فريدة من نوعها في هذا الكون، وهنا خمسة آلاف زهرة تشبهها فقط
في بستان واحد.
ثم خاطب نفسه قائلا:
«ستغضب كثيرا
لو رأت هذا المشهد... كانت ستتظاهر بالسعال أو بالموت حتى تفلت من هذا الموقف
الحرج، وسأكون مضطرا للتظاهر بعلاجها، وستلجأ للموت لإذلالي... »
ثم قال أيضا:
«كنت أعتقد
أنني أملك زهرة فريدة من نوعها، لكن بانت على حقيقتها؛ إنها زهرة عادية ! هذا
وبراكيني الثلاثة التي تصل إلى ركبتي ربما أحدها يكون خامدا للأبد، لن تجعل مني
أميرا ذا شأن كبير...»
ثم استلقى على العشب باكيا.
الفصل XXI
وها قد ظهر الثعلب.
- مرحبا!
بادر الثعلب بالتحية.
رد الأمير بكل أدب: «مرحبا!»
ملتفتا حوله يبحث عن مصدر الصوت.
- أنا هنا-
رد الصوت الخفي - تحت شجرة التفاح.
- من أنت؟
تبدو جميلا!
- أنا ثعلب!
- تعال و
العب معي، فأنا حزين جدًّا.
- لا أستطيع
اللعب معك، فأنا حيوان غير أليف.
- آها! آسف.
لكن بعد لحظات من التفكير سأل
الأمير الصغير قائلا:
- لكن ماذا
تعني كلمة «أليف»؟
- أنت لست من
هنا... عن ماذا تبحث؟
- أنا أبحث
عن البشر. ماذا تعني كلمة «أليف»؟
- البشر
عندهم بنادق يصطادون بها، وهذا مزعج للغاية! إنهم يربون الدجاج، هذه الفائدة
الوحيدة من ورائهم، هل تبحث عن الدجاج؟
- لا، أنا
أبحث عن أصدقاء. ماذا تعني كلمة «أليف»؟
- إنه شيء طي
النسيان، تعني «خلق علاقات...»
- خلق
علاقات؟
- طبعا، أنت
بالنسبة لي طفل صغير مثل آلاف الأولاد الصغار، وأنا لست بحاجة إليك ولا أنت بحاجة
لي، أنا بالنسبة لك ثعلب مثل آلاف الثعالب الأخرى، لكن إذا روضتني فكل منا سيكون
في حاجة للآخر، ستكون الشخص الوحيد الذي أحتاجه في هذا العالم، وسأكون لك أنت فقط
في هذا العالم.
- أظنني بدأت
أفهم، هناك زهرة روضتني...
- ممكن، هنا
على كوكب الأرض يمكننا أن نرى العجب!
- لا، ليس
على الأرض. قال الأمير الصغير.
اندهش الثعلب وقال:
- على كوكب
آخر!؟
- نعم
- هل يوجد
صيادون على هذا الكوكب؟
- لا.
- هذا مثير
للغاية، وماذا عن الدجاج؟
- لا.
- لا شيء
مكتمل في هذه الدنيا.
لكن الثعلب عاد لفكرته وقال:
- حياتي
روتينية، فانا أصطاد الدجاج، البشر يصطادونني، كل الدجاج متشابه وكذلك البشر. وهذا
يشعرني قليلا بالملل، لكن إذا روضتني فسيصبح لحياتي معنى، سأصبح أفرق بين وقع خطاك
و خطى الغير؛ فخطاهم تجبرني على الاختباء تحت الأرض هربا، أما خطاك فتجعلني أرقص
فوق الأرض مرحا، ثم... انظر هناك ! هل ترى حقول القمح؟ لا يغنيني الخبز من جوع،
فالقمح لا يعني شيئا بالنسبة لي ... حقوله الشاسعة لا تذكرني بشيء، وهذا محزن
للغاية ! لكنك تمتلك شعرا ذهبي اللون، وسيكون رائعا إذا روضتني؛ فالقمح الذهبي
سيذكرني بك، وأحب صوت الريح الذي يهز سنابل القمح...
ثم سكت الثعلب لمدة طويلة،
وبقي يحدق في الأمير الصغير ثم قال:
- من
فضلك...روضني!
- يسعدني
ذلك، لكنني لا أملك الكثير من الوقت؛ فلدي الكثير من الأصدقاء لأتعرف عليهم، وكثير
من الأشياء لمعرفتها.
- لا نرى سوى
الأشياء التي روضناها، البشر ليس لديهم الوقت المعرفة أشياء جديدة، يشترون فقط
الأشياء الجاهزة من عند التجار، وبما أن الأخيرين ليس لديهم أصدقاء للبيع فبالتالي
لليس للبشر أصدقاء! إذا كنت تريد صديقا فروضني!
- ما الذي
يجب علينا عمله؟ سأل الأمير الصغير .
- يجب أن
تكون صبورا جدًّا، أولا يجب أن تبقى بعيدا عني هكذا في العشب، سأنظر إليك بطرف
عيني ولا تقل شيئا، فالكلام مصدر اللافهم. لكن كل يوم يمكنك الجلوس في مكان أقرب.
عاد الأمير الصغير في اليوم
الموالي فبادره الثعلب قائلا:
- كان الأجدر
بك أن تعود في نفس الوقت، مثلا لو أتيت على الساعة الرابعة عصرا، سأصبح سعيدا بدءا
من الساعة الثالثة، وكليا تقدم الوقت شعرت بسعادة أكبر، عند حلول الساعة الرابعة
ينتابني قلق كبير وسأكتشف ثمن السعادة! أما إذا أتيت في أي وقت يحلو لك، فلا
يمكنني ضبط قلبي لك. يجب أن تكون هناك طقوس وشعائر .
- ماذا تعني
كلمة طقوس؟
- إن هذه
الكلمة أصبحت منسية، هذه الكلمة تجعل أحد الأيام مختلفا عن البقية، ساعة عن ساعات
أخرى... فمثلا طقوس الصيادين أنهم يرقصون يوم الخميس مع فتيات القرية، وعليه
فالخميس يوم رائع! أذهب للتنزه إلى أن أصل إلى شجرة الكرمة، فلو أن الصيادين
يرقصون متى شاءوا ستصبح الأيام كلها متشابهة، ولن يكون لي يوم عطلة.
وهكذا روض الأمير الصغير
الثعلب، ولما قربت ساعة الرحيل قال الثعلب:
- آه ...
سأبكي!
- إنها
غلطتك، لم أرد إيذاءك، لكنك أصررت على ترويضي لك.
- طبعا.
- لكنك
ستبكي؟
- طبعا.
- إذن لن
تستفيد من شيء!
- بلى لقد
كسبت شيئا - قال الثعلب - بسبب لون القمح!
ثم أضاف:
- اذهب وألق
نظرة على الأزهار مرة أخرى؛ ستكتشف أن زهرتك فريدة من نوعها، ولما تعود لتوديعي
سأهديك سرا.
رجع الأمير الصغير لرؤية
الأزهار من جديد وقال:
- أنتم لا
تشبهون زهرتي أبدا؛ لم يروضكم شخص من قبل، ولم تقوموا أنتم بترويض شخص من قبل... كنتم
مثل ما كان عليه ثعلبي، مثل مئات الآلاف من الثعالب الأخرى... لقد اتخذته صديقا؛
فهو فريد من نوعه في هذا العالم.
كانت الأزهار محرجة جدًّا،
وأردف الأمير الصغير قائلا:
- أنتن
جميلات لكن فارغات، لا نستطيع الموت من أجلكن. لو مر أي شخص عادي بكن يظن أن زهرتي
تشبهكن، لكنها فريدة من نوعها و أكثر أهمية منكن؛ لأنها هي من قمت بسقيها ووضعها
تحت صندوق زجاجي، وهي من حميتها بعازل الهواء و خلصتها من اليرقات (إلا اثنين أو
ثلاثة من الممكن أنها ستصبح فراشات) هي التي أسمع تذمرها أو تفاخرها، وفي بعض
الأحيان صمتها، إنها زهرتي.
ثم عاد إلى الثعلب وقال:
- الوداع!
- الوداع!
إليك السر، إنه بسيط جدًّا: نبصر فقط بالقلب، فالأشياء المهمة لا يمكننا رؤيتها
بالعين المجردة.
- الأشياء
المهمة لا يمكننا رؤيتها بالعين المجردة.
أعاد الأمير الصغير الكلام كي
يتذكره.
- إن الوقت
الطويل الذي قضيته بعيدا عن زهرتك جعل منها شيئا مهما بالنسبة لك.
- إن الوقت
الطويل الذي قضيته بعيدا عن زهرتي...
أعاد الأمير الصغير الكلام كي
يتذكره.
- البشر نسوا
هذه الحقيقة، لكن لا يجب عليك نسيانها. ستكون دائما مسئولا عن أي شيء روضته، أنت
مسئول عن زهرتك.
- أنا مسئول عن زهرتي.
أعاد الأمير الصغير الكلام كي
يتذكره.
الفصل XXII
- مرحبا! قال
الأمير الصغير
- مرحبا! رد عليه
عامل تحويل السكك الحديدية.
- ماذا تفعل هنا؟
سأل الأمير الصغير.
- أقوم بفرز آلاف
العربات التي تقل المسافرين، فتارة أوجهها إلى اليمين، وتارة إلى اليسار.
وفي لحظة سمع قطارا مضاء، وصوته
کهزيم الرعد، مر مسرعا فأحدث ارتجاجا في مقصورة العامل محول السكك الحديدية، فسأل الأمير
الصغير:
- هل هم في عجلة
من أمرهم ؟؟ ماذا يردون؟
- حتى سائق القاطرة
لا يعرف!
وصوت قطار ثان مضاء قادم من الاتجاه
المعاكس.
- هل عادوا بهذه
السرعة !؟ سأل الأمير الصغير.
- ليسوا أنفسهم،
إنهم آخرون.
- ألم يشعروا
بالرضا حيث كانوا؟ سأل الأمير الصغير.
- لا نشعر دائما
بالرضا حيث نحن!
وصوت قطار ثالث مضاء... فسأل الأمير
الصغير:
- هل يتتبعون
المسافرين الذين سبقوهم؟
- إنهم لا يتتبعون
شيئا، إنهم ينامون هناك بالداخل أو يتثاءبون، الأطفال فقط من يضغط أنوفهم على زجاج
النوافذ.
- فقط الأطفال
على دراية عما يبحثون، يضيعون وقتهم بدمية من قطعة قماش، فتصبح ذات أهمية كبرى، فلو
أخذناها منهم سيبكون...
-هم محظوظون.
قال محول السكك.
الفصل XXIII
- مرحبا! قال
الأمير الصغير
- مرحبا! قال
التاجر.
كان يبيع حبوبا تغني عن شرب الماء،
نتعاطى واحدة منها فلا تعطش لمدة أسبوع.
- لماذا تبيع
هذه الحبوب؟ سأل الأمير الصغير.
- هذا اقتصاد
كبير للوقت، لقد قام الخبراء بإحصائيات فوجدوا أننا نوفر ثلاثا وخمسين دقيقة من وقتنا
في الأسبوع.
- وما فائدة الثلاثة
والخمسين دقيقة هذه؟
- نفعل خلالها
ما نريد...
قال الأمير الصغير محدثا نفسه:
«لو كانت لدي ثلاث وخمسون دقيقة لأقضيها؛ لتوجهت نحو أحد نافورات المياه ببطء...»
الفصل XXIV
مرت ثمانية أيام منذ تعطل طائرتي
في الصحراء، وكنت قد شربت آخر قطرة من الماء المتوفر لدي وأنا أستمع إلى قصة التاجر،
وقلت للأمير الصغير:
- آها! ذكرياتك
جميلة جدًّا، لكنني لم أصلح طائرتي بعد، وقد نفذ كل الماء الذي كان معي، وسأكون سعيدا
للغاية أنا أيضا إذا تمكنت من السير بهدوء نحو نافورة مياه!
- قال لي صديقي
الثعلب...
- يا صديقي الصغير،
الأمر لم يعد مرتبطا بالثعلب!
- لماذا؟
- لأننا سنموت
عطشا.
لم يفهم الأمير الصغير ما أصبو
إليه وقال:
- من الجميل الحصول
على أصدقاء؛ حتى لو أنهم سيموتون، أنا سعيد جدًّا لحصولي على ثعلب صديق!
قلت لنفسي: « إنه لا يقدر الأخطار!
فهو لن يشعر بالجوع ولا بالعطش؛ فيكفيه فقط ضوء الشمس !! »
نظر لي، وأجاب على استفساري:
- أنا أيضا عطشان...
فلنبحث عن بئر!
ظهر علي الملل من حركاتي، فمن
غير المعقول البحث عن بئر في صحراء مترامية الأطراف من غير وجهة معينة، ومع كل هذا
مشينا.
سرنا ساعات طويلة دون أن يكلم
أحدنا الآخر، عسعس الليل وبدأت النجوم تتلألأ، كنت أشاهدها وكأنني في حلم !! شعرت بالحمى
بسبب العطش وكلمات الأمير الصغير تتراقص في ذاكرتي وقلت:
- أنت أيضا عطشان؟
لكنه لم يجب على سؤالي، وقال بكل
بساطة :
- يمكن أن يكون
الماء مفيدا أيضا للقلب.
لم أفهم قصده، و لزمت الصمت؛ لأنني
أعرف جيِّدا أنه لا يجب إزعاجه.
كان يشعر بالتعب، فجلس وجلست بالقرب
منه، وبعد برهة من الصمت قال:
- النجوم جميلة
بسبب زهرة لا نراها...
قلت: «طبعا» وبقيت صامتا أنظر
إلى طيات الكثبان الرملية تحت ضوء القمر.
- حتى الصحراء
جميلة. أضاف قائلا.
وهذه حقيقة، لطالما أحببت الصحراء.
نجلس على كثبان الرمل لا نرى ولا نسمع شيئا. وبعد كل هذا يشع شيء في صمت ... وقال الأمير
الصغير:
- ما يزين الصحراء
وجود بئر في أحد أركانها.
تفاجأت من إدراكي لإشعاع الرمل
المبهم، عندما كنت صغيرا سكنت بيتا قديما، والأسطورة كانت تقول إنه يحوي كنزا مدفونا،
وبطبيعة الحال لم يتمكن أحد من اكتشافه؛ بل لم يقم أحد بالبحث عنه، كان هذا المنزل
يسحر الجميع... منزلي يخفي سرا عميقا في قلبه. وقلت للأمير الصغير:
- نعم، كل ما
يصنع جمال المنزل، النجوم، أو الصحراء فهو خفي!
- أنا سعيد جدًّا
لأنك توافق رأي صديقي الثعلب!
المنام الأمير الصغير أخذته بين
ذراعي وتابعت سيري، تأثرت كثيرا؛ ظننت أني أحمل كنزا سهل الكسر، وتخيلت أنه لا يوجد
شيء أكثر هشاشة منه على وجه البسيطة. رأيت تحت ضوء القمر جبينه الشاحب، عينيه المغلقتين،
وخصلات شعره التي تتلاعب بها الرياح، وقلت في نفسي: «ما أراه هنا لا يعدو أن يكون سطحيا؛
فالعمق مبهم...»
كما أن شفتيه رسمتا نصف ابتسامة،
ومازلت أقول لنفسي:
«ما حز في نفسي
هو إخلاص هذا الأمير الصغير لزهرته؛ فصورتها تشع بداخله مثل نور المصباح، حتى وهو نائم...!
» وشعرت أنه أكثر هشاشة، يجب حماية المصابيح؛ فهبة ريح صغير تطفئهم...
و أنا أسير اكتشفت بئرا مع طلوع
الفجر.
الفصل XXV
قال الأمير الصغير:
- الناس يحدثون
فوضى عارمة في محطات القطارات السريعة، يجهلون ما يبحثون عنه، يدورون في حلقة مفرغة.
و أضاف قائلا:
- لا داعي...
البئر الذي عثرنا عليه لا يشبه
أبدا الآبار الصحراوية؛ فالأخيرة هي عبارة عن ثقوب محفورة في الرمل، لكن ما وجدناه
يشبه آبار القرية، ولا توجد أية قرية هنا... أظنني أحلم!
ثم قلت للأمير الصغير:
- هذا غريب !
كل شيء جاهز: البكرة، الدلو والحبل.
ضحك الأمير الصغير، ثم تناول الحبل
وسحبه، فجر البكرة التي أحدثت صوتا مزعجا، مثل الديك الذي يستعمل فوق المنازل التحديد
وجهة الرياح، وقد غابت عنه الريح لمدة طويلة ثم قال:
- هل تسمع؟ لقد
أيقظنا هذا البئر، وهو الآن يغني...
لم أرد لهذا الأمير الصغير أن
يبذل جهدا إضافيا وقلت له:
- دع لي الأمر،
إنه ثقيل بالنسبة لك.
رفعت الدلو ببطء إلى أن وصل إلى
حافة البئر، ووضعته عليها، لا يزال صوت البكرة يتردد في أذني، على سطح الماء – الذي
لا يزال يتماوج - رأيت صورة الشمس منعكسة عليه.
- أنا متعطش لهذا
الماء، اسقني منه. وعرفت ما يبحث عنه الأمير الصغير!
رفعت الدلو لشفتيه، فشرب وهو مغمض
العينين، كان المنظر رائعا! لم يكن هذا الماء مجرد عنصر للبقاء على قيد الحياة، لقد
وجد من جراء السير تحت النجوم وصوت البكرة وقوة ساعدي الذين سحبا الدلو إلى الحافة.
كانت للقلب كهدية جميلة هذه المياه ... لما كنت طفلا صغيرا، أضواء شجرة عيد الميلاد،
وموسيقى قداس منتصف الليل، وعذوبة الابتسامات كانت مصدر إشعاع الهدية التي تلقيتها
في أعياد الميلاد.
- البشر - أقرانك
- يغرسون خمسة آلاف زهرة في بستان واحد، ولا يجدون الشيء الذي يبحثون عنه فيها...
قال الأمير الصغير.
- لا يجدونه.
- كل ما يبحثون
عنه يمكن أن يتواجد في زهرة واحدة، أو في الماء.
- طبعا.
ثم أضاف الأمير الصغير قائلا
:
- لكن تعمى العيون،
لذا يجب البحث عن طريق القلب.
شربت، وأخذت نفسا عميقا، كانت
الرمال عند الصباح بلون العسل، وكنت سعيدا للغاية بهذا المنظر ! لم يكن أبدا علي أن
أشعر بالضيق آنئذ...
- يجب أن تفي
بوعدك. قال الأمير الصغير وهو جالس بجنبي.
- أي وعد؟
- هل تعرف...
كمامة لخروفي... فأنا مسئول عن هذه الزهرة!
أخرجت من جيبي مسودات الرسم التي
رسمتها آنفا، ما إن رآها الأمير الصغير حتى قال ضاحكا:
- أشجار الباوباب،
إنها تشبه قليلا نبات الملفوف!
- آها!
أنا الذي كنت فخورا برسمي هذا
لشجر الباوباب! وقلت للأمير الصغير:
- أذنا صديقك
الثعلب تشبه إلى حد كبير القرون... إنها طويلة جدًّا!
ضحك مجددا فقلت:
- أنت غير عادل
أيها الأمير الصغير! فأنا لا أعرف غير رسم ثعبان البوا المغلق، وثعبان البوا المفتوح...
- كل شيء سيكون
على ما يرام، فكل الأطفال يمكنهم رسم ذلك!
رسمت كمامة بقلم الرصاص، وأعطيتها
له على مضض، وقلت:
- لديك إذن مشاريع
لا أعرفها!
لكنه لم يجبني وقال :
- هل تعلم؟ قفزتي
إلى كوكب الأرض... غدا ستكون الذكرى الأولى.
وبعد برهة من الصمت أضاف قائلا:
- لقد سقطت بالقرب
من هنا...
و احمر وجهه !!
شعرت بحزن غريب من جديد، دون أن
أفهم السبب، ومع ذلك تبادر إلى ذهني سؤال وقلت:
- ليس صدفة حضورك
ذلك الصباح - منذ ثمانية أيام - تتجول وحيدا بعيدا بألف ميل عن أقرب مكان مأهول! رجعت
لتبحث عن المكان الذي سقطت فيه؟
احمر وجه الأمير الصغير مجددا،
و ألححت في السؤال:
- أو ربما بسبب
الذكرى السنوية؟
ازداد وجه الأمير الصغير احمرارا،
لم يجب أبدا على أسئلتي، لكن لما يحمر وجه الشخص فذلك يعني «نعم» هل تعلم ذلك؟ وقلت
له:
- آها! أنا خائف...
لكنه أجابني قائلا:
- الآن عليك العمل،
يتوجب عليك الرجوع إلى آلتك. سأنتظرك هنا، عد غدا مساء.
لكنني لم أكن مطمئنا، تذكرت الثعلب.
نخاطر قليلا بالبكاء لما نسمح للغير بترويضنا.
الفصل XXVI
يتواجد بالقرب من البئر بقايا
جدار قديم، لما عدت من عملي في مساء اليوم الموالي لمحت من بعيد الأمير الصغير جالسا
على ذلك الجدار ورجلاه متدليتان وهو يقول:
- لا تتذكر جيِّدا!
ليس هنا بالضبط؟
رد عليه صوت آخر:
- بكل تأكيد.
وقال:
- بلى! بلى! إن
اليوم مضبوط، لكن المكان ليس هنا!
تابعت سيري نحو الجدار، لم أر
ولم أسمع أحدا، مع أن الأمير الصغير رد مجددا:
- ... طبعا، سترى
أين تبدأ آثار أقدامي على الرمال، ما عليك سوى انتظاري... سأكون هناك هذه الليلة.
كنت على بعد عشرين متر على الجدار
ولم يكن بمقدوري أن أرى أحدا.
بعد برهة من الصمت قال الأمير
الصغير:
- هل لديك سم
جيد؟ هل أنت متأكد أنك لن تجعلني أعاني لمدة طويلة ؟
توقفت في مكاني بقلب مثقل، لكنني
لم أفهم شيئا. وقال الأمير الصغير:
- اذهب الآن،
أريد النزول!
خفضت بصري إلى حافة الجدار، وقفزت
من شدة الخوف! كان هنا متوجها نحو الأمير الصغير... إنه أحد أنواع الثعابين الصفراء
التي يمكن لسمها أن يقتل إنسانا بالغا في ثلاثين ثانية!! أخذت وضعية السباق وأدخلت
يدي في جيبي لأخرج مسدسي، لكن مع الجلبة التي أحدثتها انسحب الثعبان ببطء في الرمال مثل طائرة مياه منتهية... وبسرعة
اختفى بين الحجارة محدثا صوتا معدنيا.
وصلت إلى الجدار في الوقت المناسب
وأخذت أميري الصغير بين ذراعي، ولونه شاحب كالثلج، وقلت له:
- ماذا يحدث هنا؟
الآن تكلم الثعابين؟
أزحت وشاحه الذهبي، بللت صدغيه
بالقليل من الماء وسقيته... و الآن لا أجرؤ على طلب أي شيء منه، رمقني بنظرة جدية،
ولف ذراعيه على رقبتي. وشعرت بدقات قلبه كعصفور صغير لما نرميه ببندقية وقال:
- أنا سعيد لأنك
تمكنت من إصلاح آلتك، يمكنك العودة الآن!
- كيف عرفت؟
رجعت فقط لإخباره أنني تمكنت من
إصلاح طائرتي، بخلاف ما كنا نتوقع.
لم يجب على سؤالي، و أضاف قائلا:
- أنا اليوم أيضا
أعود إلى وطني...
وأردف بنبرة حزينة:
- إنه بعيد جدًّا...
والطريق صعب...
شعرت أن هناك أمرا غريبا! شد بإحكام
على ذراعي كطفل صغير. وبعد ذلك تهيأ لي أنني أفلته، وقد سقط في حفرة سحيقة، ولم أستطع
التقاطه...
كانت نظراته جادة، ويبدو عليه
التوهان في مكان بعيد، وقلت له:
- عندي خروفك،
والصندوق من أجل الخروف، وكذلك الكمامة...
ابتسم والحزن لا يفارق محياه.
انتظرت طويلا، شعرت أنه بدأ يسخن
قليلا، وقلت:
- هل أنت خائف
يا صغير؟
طبعا كان خائفا، ابتسم بهدوء وقال:
- سأكون أشد خوفا
هذا المساء...
من جديد شعرت بفتور مشاعري نحو
ما لا يمكن إصلاحه، وأيقنت أنه لا يمكنني أن أتقبل فكرة عدم سماع هذه الضحكة من جديد.
بالنسبة لي كأنها نافورة مياه منعشة في الصحراء وقلت له:
- أريد سماع ضحكتك
من جديد يا صغيري...
لكنه قال:
- هذه الليلة،
ستمر سنة كاملة، نجمتي تتواجد فوق المكان الذي سقطت فيه السنة الفائتة.
- يا صغيري ألا
تعتقد أن هذا كابوس، قصة الثعبان، والموعد، والنجمة...
لكنه لم يجب على سؤالي وقال:
- الأشياء المهمة
لا يمكن رؤيتها.
- مثلما هو شأن
الزهرة؛ فلو أحببت زهرة موجودة على نجمة؛ سيكون جميلا جدًّا النظر إلى السماء ... ستحوي
كل نجمة زهرة.
- طبعا.
- مثل الماء الذي
سقيتني به، أتتذكر ذلك؟ كان مثل موسيقى عذبة بسبب البكرة والحبل، كان جميلا جدًّا...
- طبعا.
- ستشاهد النجوم
خلال الليل، نجمتي صغيرة جدًّا، لا يمكنني أن أريك إياها. هكذا أفضل... ستكون نجمتي
بالنسبة لك إحدى النجوم المتواجدة في كبد السماء، وأنت تحب رؤية كل النجوم... ستكون
كلها صديقاتك... بعدها سأعطيك هدية...
ضحك مجددا ثم قلت له:
- يا صغيري! يا صغيري! أحب كثيرا
سماع هذه الضحكة!
- بالضبط! هذه
ستكون هديتي... تماما مثل الماء...
- ما الذي تريد
قوله؟
- ليس لدى كل
الأشخاص نفس النظرة إلى النجوم، بالنسبة للمسافرين فالنجوم عبارة عن مرشد، أما بالنسبة
لبعض الناس فلا تعدو أن تكون شعلة صغيرة. بالنسبة للعلماء فهي عبارة عن مشاكل حسابية
معقدة، بالنسبة لرجل الأعمال الذي تعرفت عليه فهي عبارة عن ذهب، لكن كل هذه النجوم
صامتة لا تتكلم، أما أنت فستكون النجوم بالنسبة لك كما لم يرها أحد من قبل...
- ما الذي تريد
قوله؟
- عندما ترفع
عينيك إلى السماء في الليل، ومادام أنني أسكن إحداها، وأضحك عليها؛ سيتخيل لك أن كل
النجوم ضاحكة، إذن أنت تملك نجوما تعرف كيف تضحك !
و ضحك مجددا.
- لما تشعر بالوحدة
(هذه نهاية حتمية) ستكون سعيدا لأنك عرفتني، ستكون دائما صديقي... ستكون لديك الرغبة
في الضحك معي، وستفتح نافذتك... هكذا فقط من أجل المتعة... سيحتار أصدقاؤك عندما يرونك
تنظر إلى السماء وتضحك، ستقول لهم: «نعم! إنها النجوم... دائما تجعلني أضحك ! » سيحسبونك
مجنونا، و سأكون قد دبرت لك حيلة سيئة...
وضحك مجددا ثم قال:
- كأنني سأعطيك بدل النجوم أجراسا
صغيرة تعرف كيف تضحك...
ضحك مجددا، ثم غلبت عليه الجدية
وقال:
- لا داعي لمجيئك هذه الليلة!
- لن أتركك وحيدا.
- سأظهر لك وكأنني
أتألم... سأبدو وكأنني أحتضر... هكذا هو الأمر... لا داعي لمجيئك ...
- لن أتركك وحيدا.
لكنه كان قلقا للغاية وقال:
- قلت لك هذا...
إنه أيضا بسبب الثعبان، لا يجب أن يلدغك أنت أيضا... الثعابين شريرة، يمكن أن تلدغ
من أجل المتعة فقط...
لن أتركك وحيدا.
لكن شيئا ما طمأنه وقال:
- صحيح ليس لديها
سم كافي للدغة ثانية...
لم أره تلك الليلة يتحرك إلى وجهته،
تمكن من الإفلات دون جلبة. لما تمكنت من اللحاق به سارع في خطاه وقال:
- آها! أنت هنا.
أخذ بيدي، و ظهر عليه التأثر،
وقال لي:
- إنه خطأ كبير
أن تلحق بي، سيؤلمك ذلك. سيبدو وكأنني ميت، لكن ذلك غير صحيح...
لزمت الصمت.
-هل فهمت؟ إنه
بعيد جدًّا. لا يمكنني حمل هذا الجسد إنه ثقيل جدًّا.
لم أقل شيئا.
- سيكون الأمر
مثل قذيفة قديمة مهملة، ليست محزنة هي القذائف القديمة...
لزمت الصمت.
كان محبطا نوعا ما، لكنه بذل جهدا
إضافيا، وقال:
- سيكون الأمر
جميلا للغاية، هل تعلم ذلك ؟ سأشاهد أنا أيضا النجوم و كلها ستكون عبارة عن بئر ذات
بكرة صدئة، وكل النجوم ستساعدني على شرب الماء ...
لزمت الصمت.
- سيكون الأمر ممتعا للغاية! سيكون
لديك خمسمائة مليون جرس، و يكون لدي خمسمائة مليون نافورة مياه...
سكت هو أيضا؛ لأنه كان يبكي...
- هنا المكان،
دعني أتقدم لوحدي.
ثم جلس؛ لأنه كان خائفا. وقال
أيضا:
- هل تعلم؟ زهرتي...
أنا المسئول عنها! إنها ضعيفة للغاية! إنها ساذجة للغاية... تمتلك أربعة أشواك فقط
لتحمي نفسها بها من شرور العالم!!
جلست؛ لأنني لم أعد أستطع الوقوف،
وقال:
- هذا كل شيء...
تردد قليلا، ثم وقف، وتقدم خطوة
للأمام، و أنا لم أستطع التحرك.
لم يكن هناك شيء غير شيء أصفر
يلمع في كاحله، بدا للحظة لا يتحرك، ولا يتكلم... سقط بكل هدوء مثلما تسقط شجرة، ولم
يحدث ضجة بسبب الرمل.
الفصل XXVII
و الآن، طبعا قد مرت ست سنوات...
لم أقص هذه الحكاية من قبل، الرفاق الذين رأوني كانوا سعداء جدًّا؛ لأنني لا زلت على
قيد الحياة، كنت حزينا لكنني قلت لهم: «إنني منهك»
أشعر الآن بقليل من الارتياح،
يعني... ليس تماما، لكنني أعلم جيِّدا أنه عاد إلى كوكبه؛ فعند طلوع الفجر لم أجد جسده
الذي لم يكن ثقيلا... أحب سماع النجوم في الليل تبدو كخمسمائة مليون جرس.
لكن هناك أمرا غريبا، لقد نسيت
إضافة حزام من الجلد للكمامة التي رسمتها للأمير الصغير! لن يستطيع أبدا وضعها على
فم الخروف! و قلت: «ماذا يحدث على كوكبه؟ هل يمكن أن يكون الخروف قد أكل الزهرة ..؟
»
في بعض الأحيان أقول لنفسي: «
أكيد لا! الأمير الصغير يضع زهرته كل ليلة تحت غطاء زجاجي، كما أنه يراقب خروفه جيِّدا...»
إذن أنا سعيد، و النجوم كلها تضحك
بهدوء.
و أيضا في بعض الأحيان أقول لنفسي
«قد نذهل بين الفينة والأخرى، وهذا كاف! ممكن أنه نسي وضع الغطاء الزجاجي على الزهرة
أحد المرات، أو احتمال أن الخروف خرج خلال الليل من غير أن يحدث ضجة...»
إذن ستتحول كل الأجراس إلى دموع
..!
هنا يكمن سر كبير بالنسبة لكم
أنتم الذين تحبون الأمير الصغير كما أحبه أنا أيضا، لا يوجد شيئان متشابهان في الكون
في مكانين مختلفين. لا نعلم هل يمكن لخروف لا نعرفه أن يأكل زهرة أم لا...
أنظروا إلى السماء واسألوا: هل
أكل الخروف الزهرة أم لا؟ وسترون كيف يتغير كل شيء...
ولن يعي أبدا الأشخاص الكبار أن
هذا أهمية كبيرة!
بالنسبة لي هذا المنظر الطبيعي
الأكثر جمالا، والأكثر حزنا في نفس الوقت، إنه نفس المنظر في الصفحة السابقة، ولقد
رسمته مرة ثانية كي تروه جيِّدا، هنا سقط الأمير الصغير على الأرض... ثم اختفى!
أنظروا إلى هذا المنظر بعناية
و تركيز؛ حتى إذا سافرتم يوما إلى إفريقيا ستتعرفون عليه، في الصحراء. و إذا حدث أن
مررت من هنا، أتوسل إليكم لا تستعجلوا... فقط انتظروا تحت النجوم! إذا أتاكم طفل صغير،
كان يضحك، شعره ذهبي، لا يرد على أي سؤال يوجه إليه، يمكنكم التخمين من هو! كونوا لطفاء!
لا تتركوني حزينا جدًّا: اكتبوا لي بسرعة أنه عاد...
No comments:
Post a Comment