الأمير الصغير
تأليف: أنطوان دو سانت اكزوبري
ترجمة: يوسف غصوب
إلى ليون فيرس
أقدم اعتذاري للأطفال لأني أهديت هذا الكتاب لأحد من الكبار.
لكن لي عذري الجاد في هذا: ألا وهو أن هذا الشخص من الكبار هو أفضل صديق لي في هذا العالم.
ولي عذر آخر: أن هذا الشخص من الكبار بوسعه أن يتفهم كل شيء، بما فيه كتب الأطفال.
ولي عذر ثالث: أن هذا الشخص من الكبار يسكن في فرنسا حيث يعاني من الجوع والبرد.
وهو بحاجة لمن يواسيه.
ولكن، إن لم تكفي كل هذه الأعذار، فإني أرغب تقديم هذا الكتاب لهذا لطفل الذي كانه يومًا ذاك الإنسان
الكبير.
لأن كل الكبار كانوا ذات يوم أطفالًا. (وإن كان القلائل منهم يتذكر هذا).
لذلك أصحح إهدائي الذي أقدمه:
إلى ليون فيرث حين كان طفلًا صغيرًا.
1
رأيت، وأنا في السادسة من عمري، صورة رائعة في كتاب عن "الغابة العذراء" يدعى "قصص حقيقية"
وكانت الصورة تمثل ثعبانًا (بُوَا) يبتلع وحشًا. في أعلى الصفحة نسخة عن تلك الصورة.
وقرأت في الكتاب: "أن الثعابين تبتلع فريستها بالكامل، من دون أن تمضغها، فإذا ابتلعتها عجزت عن كل
حركة ونامت مدة سّتة أشهر حتى تنتهي من هضمها.
وبعد أن فكرت مليًا فيما يقع في الغابات من الحوادث أخذت قلمًا فيه رصاصة ملونة وخططت أول رسم
رسمتُه وهو كما ترى.
ثمّ أريتُ باكورة فّني الكبار من الناس (أعني الكبار في السن) وسألتهم قائلًا: أما يُخيفكم هذا الرسم؟
فأجابوا: متى كانت القبعة تخيف الناس؟
ما كان رسمي يمّثل قبعة بل ثعبانًا يهضم فيلًا. ثم رسمت باطن الثعبان عسى أن يفهم الكبار فإنهم في
حاجة دائمة إلى الإيضاح. وكان رسمي الثاني كما ترى.
فلما أبرزته لكبار الناس تنصحوا لي بأن أدع جانبًا رسم الثعابين من الخارج والباطن وقالوا: الأفضل لك
أن تعنى بدرس الجغرافية والتاريخ والحساب وقواعد اللغة، فأهملت، وأنا في السادسة من عمري، مستقبلًا
باهرًا في فن التصوير لأن رسمي الأول والثاني لم يروقا كبار السن. إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئًا من تلقاء نفوسهم فلا بد للصغار من أن يشرحوا لهم ويطيلوا الشرح ويكرّروا. ولا يخفى ما في هذا من التعب والعناء.
اضطررت إلى اختيار مهنة أخرى، فتعّلمت قيادة الطائرات و طرت هنا و هناك في مختلف أنحاء العالم.
ومما لا ريب فيه أن الجغرافية كانت لي خير معوان في طيراني، فكنت أفرّق ،لأول وهلة، و من دون أي
تردد، بين بلاد الصين و أريزونا. و في هذا فائدة جّلى ولا سيما إذا ضلّ الطائر طريقه في الليل.
واتصلت، في مجرى حياتي، بكثير من أهل الرزانة و الوقار، ولابست كبار الناس ملابسة حميمة، غير
أن سوء رأيي فيهم لم يتبدل تبدلًا يذكر.
كنت إذا لقيت أحدهم وبدا أنه على شيء من صفاء الذهن امتحنته بالرسم الأول الذي احتفظت به، لأرى
مقدار ما عنده من الفطنة ، والإدراك، فإذا قال : "هذي قبعة" أضربت عن الكلام على الثعابين و الغابات
العذراء و النجوم، وإنحططت إلى مستوى فهمه فحدثته عن "البردج" وعن "الغولف" وعن ربطة العنق
وفي السياسة، فيسرّ سرورًا كثيرًا لتعرّفه إلى رجل على هذا الجانب من التعقل.
2
و ظللت هكذا وحيدًا لا أجد من أتحدث إليه حديثًا صادقًا حتى اليوم الذي تعطلت فيه طائرتي في
الصحراء و قد مرّ على هذا الحادث ست سنوات. وكان العطل في المحرك و لم يكن في الطائرة
ميكانيكي و لا ركاب، فتأهبت لإصلاح العطل بنفسي على ما في إصلاحه من الصعوبة، على أن في
إخفاقي أو نجاحي موتي أو حياتي. ولم يكن لديّ من الماء إلا ما يكفيني مدة ثمانية أيام.
نمت في الليلة الأولى على الرمل و بيني و بين أقرب بلد آهل ألف ميل، فكنت في عزلتي أشد انفرادًا
من غريق على طوف في عرض المحيط. و شدّ ما كانت دهشتي عندما استيقظت في الصباح على صوت
نحيل غريب يقول: ارسم لي إذا شئت، خروفًا.
قلت: ماذا؟
قال: صوّر لي خروفًا.
فاستويت على قدمي مذعورًا كمن انقضّت عليه الصاعقة، وأخذت أفرك عينيّ. ثم نظرت فإذا ولد صغير
غريب الهيئة يحدق إليّ بإنعام ورصانة. وقد صورته فيما بعد صورًا عديدة غير أن الصورة التي ترى
هي أفضلها. لكنها هيهات أن تدانيه فتونًا و جمالًا. وما يرجع إليّ الذنب في تقصيري فإن الكبار قد
ثبطوا عزيمتي عن مسلك التصوير يوم كنتُ في السادسة من عمري، وما كنت تعلمت من هذا الفن سوى
رسم الثعابين من ظاهرها و باطنها.
نظرت إلى هذه ال"رؤيا" بعينين ملؤهما الدهشة والحيرة. ولا غرابة فأنا على بعد ألف ميل عن كلّ ناحية
معمورة وما من شيء يدل على أنّ هذا الولد ضلّ طريقه أو أنه يهلك جوعًا أو عطشًا أو أنه يموت عياءً
أو خوفًا، و ما من شيء ينبئ أنه ضائع في قلب هذه الصحراء على بعد ألف ميل عن كلّ بلد آهل.
ولما عاد إليّ روعي واستطعت الكلام قلت: وأنت... ماذا تصنع هنا؟
فلم يجب على سؤالي بل كرّر عليّ طلبه الأول وكأنّه يعلق عليه أهمية كبيرة.
قال: أرسم لي، إذا شئت، خروفًا.
فحيال هذا السرّ الغامض الذي أّثر في نفسي تأثيرًا بليغًا ما جرؤت على عصيان أمره بل تأهّبت لتلبيته
على ما فيه من الغرابة في مكان يبعد ألف ميل عن كلّ بلدِ معمور وعلى ما يحيق بي من خطر الموت.
فأخرجت من جيبي ورقة و قلم الحبر ثم ذكرت أّني درست على الأخص الجغرافية و التاريخ و الحساب
و قواعد اللغة. فقلت للولد الصغير بنبرة فيها شيء من الامتعاض: إّني لا أحسن الرسم.
فقال: لا بأس في ذلك. ارسم لي خروفًا.
و لم أكن رسمت من قبل خروفًا فرسمت له أحد الرسمين اللذين في متناول قلمي. وهو رسم الثعبان في
هيئته الخارجية. وما أشدّ ما كانت دهشتي عندما سمعت الولد يقول: لا، لا. أنا ما أردت فيلًا في ثعبان.
فالثعبان شديد الخطر، أما الفيل فيضيق به موطني. إن موطني صغير، صغير جدًا. أنا بحاجة إلى
خروف، فأرسم لي خروفًا.
فرسمت له خروفًا.
فأنعم النظر فيه ثم قال: لا، لا. هذا خروف مريض. وقد تفاقم مرضه فأرسم لي غيره.
فرسمت له غيره.
فابتسم ابتسامة حلوة وقال مترفّقًا بجهلي: ألا ترى ... ليس هذا خروفًا. هذا كبش ذو قرنين.
فرسمت له خروفًا آخر. فلم يرض عنه بل رفضه كما رفض الخروفين السابقين وقال: هذا خروف قد
شاخ وأنا أريد خروفًا فتيًا يعمِّر طويلًا.
ففرغ عندئذٍ صبري وكنت أنوي الإسراع في تفكيك المحرّك فخربشت له الصورة التي ترى
وقلت: هذا هو الصندوق. أمّا الخروف ففي داخله. ونظرت إليه فإذا وجهه يتهلّل حبورًا، فعجبت لأطوار
هذا الولد الذي جعل نفسه حكمًا في تصويري. ثم قال: هذا ما كنت أبتغي. ولكن أتراه يحتاج إلى كثير من
العشب؟
قلت: ولماذا؟
قال: لأنّ موطني صغير جدًا.
قلت: مهما كان صغيرًا فكن على يقين من أنّ عشبه يكفيه فإني أعطيتك خروفًا على غاية من الصغر.
فحنا رأسه على الرسم وقال:
لا أراه صغيرًا بقدر ما تتوهّم ... أنظر فإنه قد نام.
هكذا عرفت الأمير الصغير.
3
قضيت مدّة طويلة قبل أن أعرف من أين كان مجيئه. فإنّ هذا الأمير الصغير كان يلقي عليّ الكثير من
الأسئلة ولا يصغي إلى ما أطرح عليه منها وما عرفت عنه ما عرفت إلّا من خلال ألفاظ كان ينطق بها
مصادفة. ومن ذلك أنّه عندما رأى طائرتي لأول مرّة (لا أرسم الطائرة فرسمها معقد يعجز عنه قلمي)
سألني قائلًا: ما هذا الشيء الذي أرى؟
وكنت فخورًا عندما أنبأته بأني أطير.
فصاح عندئذٍ: ماذا! أتكون هبطت من السماء؟
قلت متواضعًا: نعم.
قال: زه. زه. هذا أمر غريب.
ثم ضحك الأمير الصغير ضحكة صافية امتعضت منها امتعاضًا كثيرًا فأنا أكره الاستخفاف بما ينزل بي
من المصائب. ثم أردف قائلًا : وأنت أيضًا أتيت من السماء! فمن أيّ الكواكب أنت؟
فعلى ضوء كلامه هذا انكشف لي شيء من سرّ وجوده في تلك الصحراء فبادرته قائلًا:
أتكون هبطت من أحد الكواكب ؟
فلم يجب و أخذ يهز رأسه هزًّا وئيدًا وينظر إلى طائرتي ثم قال:
ما أراك تستطيع المجيء من بلد قصي على مثل هذه الطائرة ...
ثم استسلم لبحران متماد. ولمّا آب من بحرانه أخرج الخروف من جيبه وجعل ينظر إلى "كنزه" ويتأمّله
تأمّلًا عميقًا.
إنّ ما فاه به الأمير الصغير عن "الكواكب الأخرى" أثار فضولي وزاد في حيرتي فحاولت أن أعرف عنه
فوق ما عرفت فقلت:
من أين جئت يا عزيزي الصغير؟ وأين موطنك؟ وإلى أين تذهب بالخروف؟
ففكر قليلًا ثم قال:
من حسنات هذا الصندوق الذي أعطيتني إياه إنه يصلح أن يكون له مأوى في الليل.
قلت: هذا مما لا ريب فيه. وإّني لأعطيك إن كنت لطيفًا، حبلًا لتربطه في النهار ثمّ وتدًا.
وكأنّه اغتاظ مما عرضت عليه فقال: أيربط الخروف ؟ إنّها لفكرة غريبة!...
قلت: إن لم تربطه ذهب في كلّ مذهب وضاع.
فأغرب صديقي الصغير ضحكًا ثم قال: وأين تراه يذهب؟
قلت: يذهب في كلّ مذهب، يذهب توًا في اتجاه وجهه.
فترضّ الأمير الصغير وقال: لا بأس في ذلك فإنّ موطني على غاية من الصغر.
ثم أردف بصوت فيه بعض الكآبة: من سار في اتجاه وجهه لا يبعد كثيرًا.
4
وعرفت هكذا شيئًا آخر ذا شأن عن كوكبه وهو أنّ هذا الكوكب يكاد حجمه لا يتجاوز حجم بيت من
البيوت. وما كنت لأعجب لهذا الأمر، ففي الفضاء ما عدا السيارات الكبرى التي سميت بأسمائها كالأرض
والمشتري والزهرة والمريخ، مئات من السيارات الأخرى، بعضها على جانب من الصغر يصعب معه
رؤيتها حتّى بالمجهر.
فإذا اكتشف فلكيٌّ سيارة منها أعطاها بدل الاسم رقمًا فدعاها مثلًا السيارة رقم 3251.
أعتقد أنّ الكوكب الذي جاء منه الأمير الصغير هو الكوكب رقم ب 612 ويرتكز اعتقادي على أسباب
وجيهة. فإنّ هذا الكوكب لم يُرَ في المجهر إلا مرة واحدة في سنة 1909 وكان الذي رآه فلكيًّا تركيَّا.
أثبت الفلكي اكتشافه بأدلّة قاطعة في مؤتمر فلكي دولي غير أنّه لم يجد من يصدقه لأنّه كان مرتديًا ثيابًا
تركية، وهذا دأب الكبار فما الحيلة؟
ثم إنّه، لحسن طالع الكوكب رقم ب 612 ، قام في تركيا "دكتاتور" فرض على الشعب، تحت طائلة الموت،
ارتداء الألبسة الأوروبية، فارتدى الفلكي التركي لباسًا أوروبيًا أنيقًا، وأدلى في سنة 1920 ببيانه وأدلّته
عن اكتشافه، فانضمَّ الجميع إلى رأيه هذه المرة.
قصصت عليكم قصة الكوكب رقم ب 612 بتفاصيلها وأطلعتكم على رقمه وذلك لأنّ الكبار يحبّون الأرقام.
فإذا حدّثتهم عن صديق عرفته حديثًا أغفلوا مزاياه الجوهرية ولم يسألوك عن رقّة صوته ولا عمّا يؤثر
من الألعاب ولا عن رغبته في جمع الفراشات بل يسألونك: في أيّة سنة هو، وكم عدد إخوته، وكم وزنه،
وكم يربح أبوه؟ فإذا عرفوا كل هذا اعتقدوا أنّهم عرفوه.
وإذا قلت للكبار: "رأيت بيتًا جميلًا مبنيًا بالقرميد الأحمر وعلى نوافذه الرياحين وعلى سطحه الحمائم..."
عجزوا عن تمثّل ذلك البيت، فإذا أردت الإيضاح وجب عليك أن تقول "رأيت بيتًا قيمته ألف دينار"
فيصيحون قائلين: "ما أجمل هذا البيت!". وإذا قلت لهم: "دليلي على أنّ هذا الأمير الصغير قد وجد حقًّا هو
أنه كان فاتن الطلعة وأنه كان يضحك وأنه كان يريد خروفًا ومجرد أنه يريد خروفًا دليل على وجوده".
إذا قلت لهم ذلك هزّوا أكتافهم ورفعوها وقالوا: أنك ولد صغير...
أمّا إذا قلت لهم: "إن الكوكب الذي جاء منه الأمير هو الكوكب رقم ب 612 " اقتنعوا بكلامك وتركوك
وشأنك ولم يزعجوك بأسئلتهم. هم على هذا الدأب فلا لوم عليهم وما على الأولاد إلا أن يتجملوا ويعاملوا
الكبار بالحلم والصبر. هذا هو الواقع أمّا نحن فنفهم معنى الحياة، ولا غرابة في أن نستخف بالأرقام. كنت
أودّ لو بدأت هذه القصة كما تبدأ قصص الجنيّات فأقول:
كان في قديم الزمان أمير صغير يقطن كوكبًا لا يزيد حجمه عن حجم الأمير إلا قليلًا. وكان بحاجة إلى
صديق...
فلو بدأت قصتي هكذا لكانت في رأي من يفهمون معنى الحياة، أقرب إلى الصواب والحقيقة. أنا لا أحبّ
أن يقرأ الناس كتابي قراءة طائشة و أن يستخفوا به، فإني أحسّ غمًّا شديدًا عند كتابة هذه الذكريات. مرّت
ست سنوات على فراق صديقي وذهابه بالخروف الذي رسمته له. فإن وصفته هنا فما ذلك إلا خوف
نسيانه، ومن المؤسف أن ينسى الصديق صديقه فالأصدقاء قليل، وقلّ من له صديق. وقد أُصبح غدًا
كالكبار من الناس الذين لا يهتمّون مقا الأرقام. فلهذي الأسباب جميعًا اشتريت علبة صباغ وأقلامًا
وعدت إلى التصوير، وقد وجدت صعوبة في العودة إلى هذا الفن بعد أن بلغت من العمر ما بلغت.
ما كنت من قبل حاولت رسم شيء سوى رسم الثعبان من الظاهر ومن الباطن، وكنت عندئذٍ في السادسة
من عمري، مهما يكن من أمر فإني سأبذل الجهد في تصوير الأمير صورًا تكون على قدر المستطاع
كثيرة الشبه به. وما أنا واثق من بلوغي هذه الغاية فقد أوفق في بعض الرسوم، وأخفق في البعض
الآخر.ومما لا شكّ فيه أّني أخطئ قليلًا في القياسات ففي هذه الصورة يبدو الأمير أكبر مما يجب وفي
تلك أصغر مما ينبغي، وأتردد أيضًا في لون ثوبه فألتمس اللون الحقيقي فأصيب تارة وأخطئ أخرى. ولا
غرابة في أن يزل قلمي في بعض التفاصيل الهامة فأرجو المعذرة على هذا الزلل فتبعته لا تقع عليّ بل
على الأمير الذي ما كان ليوضح شيئًا من أمره، ولعله كان يحسبني شبيهًا به قادرًا على اكتشاف
الغوامض. وما كان في استطاعتي، لسوء طالعي، رؤية الخرفان من وراء خشب الصناديق، فقد أكون
مشبهًا للكبار من الناس، ولا بدع فإنّي قد كبرت عن سنّ الحداثة.
5
في كلّ يوم يمرّ كنت أطّلع على شيء جديد من أحوال الكوكب الذي هبط منه الأمير الصغير، فيومًا
أعرف كيف كان خروجه منه، ويومًا أعرف كيف كانت رحلته. وكنت ألتقط هذا التقاطًا من مجرد الانتباه
إلى ما يبدي من الآراء. في اليوم الثالث عرفت على هذه الطريقة قصة البوبابات*!
كان الفضل، هذه المرّة أيضًا، عائدًا إلى الخروف في إطلاعي على هذه القصة، فإنّ الأمير الصغير
فاجأني على حين غرّة بسؤاله قائلًا: أصحيح أنّ الخرفان تأكل صغار الشجر؟ وبدا كأنّه في ريب من
صحة الأمر. قلت: هذا أمر صحيح لا شكّ فيه.
قال: ما أسعدني إذًا! ولم أدرك ما همه أن يأكل الخرفان صغار الشجر، غير أنّه أردف قائلًا: إذا أكلت
الخرفان صغار الشجر، فهي تأكل كذلك البوبابات؟ فقلت له: أنّ البوبابات ليست من صغار الشجر بل هي
من عظامها. يعدل حجم الواحدة منها حجم الكنيسة، فلو ذهبت إلى موطنك بقطيع من الفيلة. لما أتى هذا
القطيع على بوبابة واحدة. فضحك الأمير الصغير عندما تصور في ذهنه قطيع الأفيال في موطنه ثم قال:
إذن لا بدّ من أن نضع الأفيال بعضها فوق بعض.
ثمّ استدرك وقال: أنّ البوبابات تبدأ صغارًا ثمّ تكبر. قلت: هذا صواب. ولكن لماذا تريد أن يأكل الخرفان
البوبابات الصغار؟
فأجابني: أيخفى عنك ذلك؟ فكان كمن يقول: إنّ الأمر على غاية من الوضوح. أمّا أنا فأعملت الفكر
طويلًا حتّى حللت هذه المشكلة من تلقاء نفسي.
والواقع أنّ كوكب الأمير الصغير كان مشتملًا كسائر الكواكب على أعشاب مختلفة، منها الصالح ومنها
الطالح، وعلى بذور لها صالحة وطالحة. أمّا البزور فلا تُرى! منها ما ترقد في ضمير الأرض إلى أن
يخطر لإحداها أن تستيقظ فتهب من رقدتها وتتمطى ثم تدفع على خوف نحو الشمس أشطاءً ندية لا خطر
فيها. فإذا كان أشطاء فجلة أو ريحانة تُركت لشأنها ونمت كيف شاءت أمّا إذا كانت عشبة نبتة طالحة
وجبت المبادرة إلى اقتلاعها فور عرفانها. وكان في كوكب الأمير الصغير بزور فظيعة هي بزور
البوبابات وكانت تملأ أرض الكوكب، فإذا نبتت إحداها وتُركت ولم يُؤبه لها اشتدت وقويت ثمّ استحال
التخلص منها ثمّ عمّت أرض الكوكب وغرزت جذورها فيه. فإن كان الكوكب صغيرًا وكانت البوبابات
كثيرة فجّرت الكوكب وذهبت به. وقد قال لي الأمير فيما بعد: "القضية قضية دربة وانتظام، فإذا انتهى
المرء في الصباح من تنظيف نفسه وإصلاح حاله، وجب عليه أن يُعنى بتنظيف كوكبه، فيلزم نفسه اقتلاع
* البوبابة شجرة من أشجار المناطق الحارة تعظم كثيرًا.
البوبابات حالما يفرّق بينها وبين الرياحين، فإنها جميعًا تتشابه كثيرًا في أوّل نبتها. وهذا عمل فيه بعض
الملل وإن يكن من السهولة بمكان".
ونصح لي يومًا بأن أبذل الجهد في رسم صورة جميلة يسهل معها إدخال هذه المبادئ في رؤوس أولاد
بلادي. وقال: "إذا كانوا يومًا على سفر فلا يبعد أن يجنوا منها ثمارًا مفيدة. قد لا يضير المرء أن يؤجل
عملًا أمّا إذا كان عمله اقتلاع البوبابات في مهودها ففي تأجيل عمله الكارثة الكبرى. عرفت كوكبًا كان
يقطنه ولد كسول فتهاون في اقتلاع ثلاث شجرات صغار...".
رسمت هذا الكوكب معتمدًا ما أخبرني عنه الأمير الصغير. أنا لا أحبّ الوعظ كثيرًا غير أنّه قلّ من
يعرف خطر البوبابات وما يتعرض له المرء من المهالك إذا قاده القدر يومًا إلى كوكب صغير. ولهذا أشّذ
عن خطّتي في تجنّب الوعظ وأقول: "أيّها الأولاد، حذار، حذار من البوبابات!"
هذا وما عنيت كلّ العناء في رسم هذه الصورة إلا رغبة مني في إنذار أصدقائي بخطر يحوم حولهم كما
حام حولي وهم في غفلة عنه، فلهذه الموعظة، كما ترون، قيمة لا يستهان بها. وقد تقولون متسائلين: ليس
في هذا الكتاب رسوم تعادل بروعتها وعظمتها صورة البوبابات. فلمَ هذا الإهمال! فأقول: قد حاولت ولم
أنجح، أمّا صورة البوبابات فكان العامل الأكبر في إجادتي رسمها شعوري بالحاجة إليها.
6
أيّها الأمير الصغير، لم أدرك ما أنت فيه من الكآبة إلا شيئًا فشيئًا. مضى عليك زمن لم يكن لك فيه من
سلوى سوى النظر إلى غروب الشمس في سكون المساء. عرفت هذا الأمر الجديد عن مجرى حياتك
عندما قلت لي في صباح اليوم الرابع:
أحبّ كثيرًا غروب الشمس. ألا تصحبني فنرى الشمس حين تغرب؟
قلت: لا بدّ من أن ننتظر طويلًا.
قال: وماذا ننتظر؟
قلت: ننتظر إلى أن تجنح الشمس للغروب.
فبدتَ عليك الدهشة في بدء الأمر ثمّ ضحكتَ من نفسك وقلت: حسبتني لا أزال في موطني.
لا يخفى على أحد أنّ الشمس تغرب في فرنسا بينما تكون الولايات المتحدة في رائعة الظهيرة، فلو
استطاع المرء أن ينتقل في دقيقة من الولايات المتحدة إلى فرنسا لشهد فيها غروب الشمس. غير أنّ
فرنسا لسوء الطالع، بعيدة جدًا عن الولايات المتحدة. أمّا في كوكبك الصغير فيكفيكَ أن تجرَ كرسيكَ
بعض خطوات فترى الشفق كلما عنّ لك أن تراه.
قلت لي: رأيت يومًا الشمس تغرب ثلاثًا وأربعين مرة. ثمّ أردفت: لا تجهل أنّ المرء، إذا اشتدَّت كآبته
أحبّ أن يرى الشمس عند غروبها.
فقلتُ: أكنت على هذا الحدّ من الكآبة عندما رأيت الشمس تغرب ثلاثًا وأربعين مرة؟
غير أنّ الأمير الصغير لم يجب.
7
في اليوم الخامس عرفتُ شيئًا جديدًا عن الأمير الصغير، وكان الفضل في ذلك كما كان من قبل راجعًا
إلى الخروف. ألقى سؤاله توًّا وعلى حين غرّة كأنّما هو نتيجة تفكير عميق في معضلة حاول حلها.
قال: إذا كان الخروف يأكل صغار الشجر فهو يأكل الأزهار أيضًا!
قلت: الخروف يأكل كلّ شيء يجده في طريقه.
قال: وهل يأكل الأزهار ذات الشوك؟
قلت: يأكل حّتى الأزهار المشوكة.
قال: وما نفع الأشواك إذًا؟
ما كنتُ أدري ما نفعها. وكنت عندئذٍ منهمكًا في فكّ لولب في المحرّك استعصى عليّ وقد خشيت أن
يطول الزمن قبل التمكّن من إصلاح الخلل فيتحرّج الموقف، ولا سيما أنّ ماء الشرب آخذ في النفاذ.
وكرر الأمير السؤال قائلًا: الأشواك ما نفعها؟ فإنه ما كان ليتخلّى عن سؤال طرحه بل يلحّ فيه ويبالغ في
إلحاحه. وكان اللولب المستعصي قد أثار سخطي فأجبته جوابًا لا طائل تحته.
قلتُ له: الأشواك لا تفيد شيئًا. إن هي إلّا مظهر من مظاهر سوء الخلق عند الأزهار.
فقال متعجّبًا: ماذا؟
وبعد أن وجم قليلًا صاح بي وفي نبرة صوته نبرة الحاقد: أنا لا أصدّق ما تقول. إن الأزهار ضعيفة
البنية ساذجة الطبع. تعمل على طمأنة نفسها قدر استطاعتها، فإذا تسلّحت بالأشواك حسبت أنّها تبعث
الرعب في القلوب.
فلم أحر جوابًا وكنت عندئذِ أفكّر في نفسي قائلًا: إذا ظلّ هذا اللولب على المقاومة أطرته بضربة من
المطرقة.
عاد الأمير فشوّش مجرى أفكاري وقال: أتظنّ أنت أنّ الأزهار...
فقطعت كلامه قائلًا: كلا، كلا. أنا لا أظنّ شيئًا. قد أجبتك جوابًا في الهواء لا طائل تحته فأنا أهتمّ الآن
لأمور جدّية!
فنظر إليّ بدهشة وقال: أمور جدّية؟
وكان يراني والمطرقة بيدي وأصابعي سود من الشحم وأنا منحنِ من فوق هنّةِ تبدو في عينه على غاية
من القبح، ثمّ قال: إنّك لتتكلم ككبار الناس!
فخجلت بعض الخجل من نفسي، أمّا هو فلم يرأف بخجلي بل تابع قائلًا: إنك لا تميّز بين الأشياء بل تخلط
بينها جميعًا!
وكان مستشيطًا غيظًا، يهتزّ من غيظه فيرتجف في الهواء شعره الذهبيّ، ثمّ قال:
عرفتُ كوكبًا كان فيه رجلٌ قرمزيّ اللون. ما شمّ يومًا زهرة ولا نظر إلى نجمة ولا أحبّ أحدًا فكان
انهماكه طوال حياته في جمع الأرقام، وكان يردّد في يومه، من صبحه إلى مسائه، ما قلت أنت: "أنا رجل
رزين، أنا رجل رزين" وكان ينتفخ كبرًا لكّنه ما كان رجلًا بل ضربًا من الفطر.
قلت: ماذا؟
قال: ضربًا من الفطر.
قال هذا وقد امتقع لونه من ثورة الغضب.
ثمّ قال: منذ الملايين من السنين تنبت الأزهار أشواكًا، ومنذ الملايين من السنين تأكل الخرفان الأزهار
بالرغم من الأشواك، وأنت ترى أنّه ليس من الجدّ في شيء أن نحاول إدراك السبب الذي من أجله تعاني
الأزهار إنباتًا لأشواك لغير ما فائدة. ألا يكون من شأنٍ للحرب القائمة بين الخرفان والأزهار؟ ألا يكون
التبحّر في هذه القضايا أجلّ شأنًا وأكثر رصانة من التبحّر في الأرقام التي يقضي ذلك الرجل الضخم
الجثة، القرمزي اللون، في جمعها؟ فلو أنني أعرف أنا زهرة وحيدة لا شبيه لها في العالم وكانت هذه
الزهرة في كوكبي وأعرف أنّ في طاقة خروف صغير أن يقضي عليها ويبيدها صباح يومٍ، بقضمة
واحدة، من دون أن يدرك شنيع صنعه، أما تكون هذه القضية في نظري على جانب من الخطورة!
وعلا وجهه احمرار ثمّ عاد فقال: إذا أحبّ رجل زهرة ليس من نوعها إلا هي في الملايين الملايين من
النجوم فإنّ ذلك يكفي لإسعاده عندما ينظر إلى النجوم ويقول في نفسه "إنّ زهرتي هي في بعض هذه
الكواكب" أمّا إذا أكل الخروف الزهرة فإنّ تلك النجوم تنطفئ بغتةً في ناظريه وتصبح كأنّها لم تكن. ألا
ترى في هذا شيئًا خطيرًا؟
قال هذا ولم يزد بل طفق يشهق وينتحب، وكان الليل قد خيّم. وقد سقطت الأدوات من يدي، نظرت إلى
المطرقة واللولب نظرة استخفاف واحتقار، وهان عندي العطش والموت.
فعلى هذه النجمة، هذه الأرض التي هي كوكبي، أمير صغير ينبغي لي أن أُهدئ من روعه وأعزّيه
وأواسيه، فأخذته بين ذراعيّ وهدهدته وقلت له: لا خطر على الزهرة التي تحبّ فإني أرسم للخروف
كمامة فلا يستطيع قضمها وأرسم للزهرة حاجزًا من حديد فلا يستطيع الدنوّ منها.
وارتبكت فلا أدري ما أقول له وشعرت بأنّي خرِفٌ غبيّ لا يسعني إدراك ما به ولا اللحاق به في عالمه،
إنّ عالم الدموع لسرٌّ غامض!
8
ثمّ عرفت شيئًا كثيرًا عن تلك الزهرة. كان في كوكب الأمير الصغير أزهار بسيطة ذات صفّ واحد من
الأوراق. تنبت فيه منذ القدم ولا تشغل مكانًا واسعًا ولا تزعج راحة أحد. كانت تبدو في الصباح بين الكلأ
ثمّ تتلاشى في المساء، أمّا تلك الزهرة فإنّها نجمت يومًا من بذرة جاءت من حيث لا ندري، ورآها الأمير
الصغير فإذا هي لا تشبه الأعشاب النابتة على كوكبه، فراقبها مراقبة شديدة خوف أن تكون نوعًا جديدًا
من أنواع البوبابات. غير أنّ النبتة، سرعان ما توقفت عن النموّ وطفقت تأخذ الأهبة لإبراز زهرتها.
وكان الأمير الصغير يشهد تكوين برعمتها العظيمة ويتوّقع أن تخرج من هذه البرعمة رؤيا عجيبة. على
أنّ الزهرة كانت تتباطأ وتطيل التأهُّب للخروج، حتّى تجيء على غاية ما يكون من جمالها. فهي في
خليّتها الخضراء تنتقي بكل دقّة ألوانها وتتأنّى في ارتداء أثوابها فترتب أوراقها وتنظمها خشية أن تبرز
للنور بثوب واهن النسج كثوب الشقائق، بل في اكتمال الجمال والروعة. وما الحيلة وهي مغناج تحبُّ
الثياب الأنيقة الزاهية. فلا عجب أن يطول تأهُّبها للخروج وأن تعنى عناءً زائدًا في تجمّلها وإعداد زينتها
في الخفاء.
وفي صباح يوم، عند طلوع الشمس، شقّت برعمتها وظهرت. وبالرغم مما قضت من الوقت في إعداد
عدّتها للخروج قالت وهي تتثاءب: آه! إنّي ما استيقظت إلّا منذ هنيهة فلذا تراني مشعثة الشعر فأسألك
المعذرة.
ولم يتمالك الأمير الصغير عن إبداء إعجابه فصاح: ما أجملك!
فأجابت الزهرة بلطف: ما أصدق ما قلت! فإنّي ولدت عند ولادة الشمس.
فأدرك الأمير الصغير أنّها لم تكن على كثير من التواضع غير أنّها كانت على كثير من الفتون.
ثمَ قالت الزهرة: أظنُّ أنّ وقت الإفطار قد حان فهل تتكرّم وتهتمّ بي.
فارتبك الأمير الصغير ومضى فجاء بمرشّة وسقى بها الزهرة ماءً باردًا.
وما لبثت الزهرة حتى أخذت تعذّبه بزهوّها وصلفها وما تبدي من الغيرة. ومن ذلك أنّها قالت له يومًا
وهي في الحديث عن شوكاتها الأربع: لتأت الآن الأنمار ببراثنها!
فردّ عليها الأمير الصغير قائلًا: ليس من أنمار على كوكبي. ثمّ إنّ الأنمار لا تأكل العشب.
فأجابت الزهرة بلطف: ما أنا عشبة.
فقال: اغفري لي زلّتي.
فقالت: أنا لا أخشى الأنمار إنّما أخاف مجاري الهواء. ألا يكون عندك حاجز دون الهواء.
فقال الأمير في نفسه: ليس من عادة الأزهار أن تخاف الهواء، فما معنى هذا؟ إنّ هذه الزهرة لذات نفسٍ
معقّدة.
ثمّ قالت الزهرة: وإذا جاء المساء ضعني تحت غطاء من زجاج فالبرد قارس عندك وليس عندي شيءٌ من
أسباب الراحة. أمّا البلد الذي جئت منه...
وتوقّفت عند هذا الحدِّ من كلامها.
إنّها جاءت إلى كوكب الأمير على شكل بذرة فما استطاعت أن تعرف شيئًا عن العوالم الأُخرى.
وكأنّها خجلت عندما فاجأت نفسها وهي تعدُّ كذبة على هذا الجانب من السذاجة فأحّت أحّتين أو ثلاثًا
لتظهر للأمير خطأ رأيه في مجاري الهواء. ثمّ قالت: والحاجز دون الهواء أين هو؟
قال: كنت على وشك الذهاب للمجيء به غير أنّكِ تكلمينني.
فعادت إلى الأحّ وبالغت فيه لتثير تبكيت ضميره.
وعلى هذا الحدّ أخذ الشكّ يتسرب إلى قلب الأمير الصغير بالرغم من صدق نيّته في حبّه لها.
أمّا أنا فأرى أنّه أنزل منزلة الجدّ بعض كلمات لا آبه لها فبات من جرّاء ذلك تعسًا شقيًّا.
وقد قال لي يومًا: "كان عليّ ألّا أصغي إليها فمن الخطأ أن نصغي للأزهار. يكفينا منها أن ننظر إليها وأن
نتنشق طيبها". كان شذا زهرتي يعبق في جنبات كوكبي أمّا أنا فما عرفت أن أجني منها لذّة ومتعة.
وقصّة البراثن والأنمار التي أزعجتني بها كثيرًا، أما كان الأحرى بي أن أبدي لها عند سماعها عطفًا
ورفقًا؟
وقال لي مرّة أخرى: "أنا ما عرفت أن أتدبّر أمري ولا أن أفهم. ما كان عليّ أن أحكم على كلامها بل
على أفعالها. إنها كانت تعطرني وتضيء لي. فلماذا فررت منها ولم أحزر ما وراء حبائلها وحيلها
الساذجة من المحبّة والعطف. إنّ الأزهار تناقض نفسها بنفسها. لكنّي كنت صغيرًا جدًّا ولم أُحسن محبتها"
9
أعتقدُ أنه اغتنم فرصة مرور طيور برّية كانت مرتحلة من بلد إلى بلد ففرّ معها، على أنّه في صباح يوم
فراره رتّب كوكبه ووضع فيه كلّ شيء في محّله فنظّف، بكثير من الاعتناء، البراكين المشتعلة، وكان في
الكوكب اثنان منها، ولا يخفى ما في هذين البركانين من الفائدة فأنّه كان يسخّن عليهما طعام الصباح.
وكان في الكوكب أيضًا بركان هامد. لكن من يدري متى يشتعل؟ لذلك نظّفه من أوساخه، فإنّ البراكين إذا
نظّفت ونزعت أوساخها كان اشتعالها لطيفًا منتظمًا فلا يخشى ثورانها. إنّ ثوران البراكين لأشبه بنار
الموقد، فإذا اتسخت مداخنها وصعب مرور الهواء فيها، أدّت إلى الكوارث. أمّا نحن على هذه الأرض
فأنّ براكيننا عظيمة ونحن صغار فلا نستطيع تنظيفها فهي لا تفتأ مدعاة للقلق والحذر.
ثمّ انتزع الأمير الصغير ما نبت من بزور البوبابات وكان في عمله هذا على شيء من الكآبة لأنّه كان
مصمّمًا على أن لا يعود إلى كوكبه، بيد أنّه كان يجد في ذلك الصباح كثيرًا من الارتياح في انصرافه إلى
هذه الأعمال التي ألفها. وعندما سقى للمرّة الأخيرة زهرته وهمّ بأن يضع عليها غطائها الزجاجيّ شعر
بالدمع يصعد إلى مقلتيه، فتمالك وقال للزهرة: الوداع!
فلم تجبه الزهرة فكرَّر قائلًا: الوداع!
فأحّت الزهرة أحّة لم تكن أحّة زكام وقالت: قد كنت في سلوكي معك غبيّة حمقاء فاغفر لي واجتهد أن
تكون سعيدًا.
فعجب الأمير من أنّها لم تُبدِ لومًا ولا عتبًا ووقف لا يدري ما يصنع وغطاء الزجاج في يديه وهو لا
يدرك ما يشاهد في الزهرة من الرقّة و اللطف والسكينة.
ثمّ قالت له: أي والله أنّي أُحبّك ولئن خفيّ عليك حبّي فالذنب ذنبي لا ذنبك. أمّا الآن فأيُّ شأنٍ لكلِّ هذا،
على أنّك أنت أيضًا كنت مثلي حُمقًا وغباوة. فاجتهد أن تكون سعيدًا...واترك هذا الغطاء فلا حاجة لي به.
قال: والهواء؟
قالت: لست من السعال في الدرجة التي تعتقد...وإنّ هواء الليل العليل لأنفع لي وأفيّد. وإنّما أنا زهرة...
قال: والوحوش!؟
قالت: لا بدَّ لي، إذا أردت رؤية الفراشات، من تحمّل جيرة بعض الديدان. فقد بلغني أنّ الفراشات شيءٌ
عجيب، وإذا لم يكن من فراشات فمن يزورني من بعدك. أمّا الوحوش فلا خوف عليّ منها فإنّي أذودها
ببراثني، وأشارت إلى أشواكها الأربع وأردفت قائلة: لِمَ إبطاؤك؟ إنّك لتزعجني بتمهّلك وتردّك. ألم تقرّر
الذهاب؟ فاذهب إذن.
وما قالت ذلك إلّا مخافة أن يراها تبكي. أنّها كانت زهرة على جانب عظيم من الكبرياء.
10
كان كوكب الأمير الصغير في منطقة الكواكب المرقومة بالأرقام التالية: 325 و 326 و 327 و 328 و 329
و 330 فبدأ رحلته بزيارتها لعلّه يجد فيها عملًا ينصرف إليه أو عملًا يفيده.
وكان أوّل كوكب نزله موطنًا لملك، فرآه مرتديًا الأرجوان والسمور ومستويًّا على عرشٍ تبدو عليه،
بالرغم من بساطته، معالم الأُبّهة والجلال. وما رأى الملك الأمير الصغير حتّى صاح قائلًا: هذا من أبناء
رعيّتي.
فقال الأمير في نفسه: كيف عرفني وهو لم يرني من قبل!
وكان يجهل أنّ العالم في نظر الملوك هو شيء على غاية البساطة: فالناس جميعًا رعيّة الملوك.
ثمّ قال الملك: ادنُ منّي فأرى وجهكَ جليًّا. وكان معتزًّا بأنّه ملك يملك على أحد الناس.
أجال الأمير لحاظه مفتِّشًا عن مكان يجلس فيه فلم يجد ذلك أن معطف الملك الفاخر السابغ كان يشغل
الكوكب بجملته فظلَّ واقفًا وكان قد تعب فتثاءب.
فقال له الملك: ليس من آداب البلاط أن تتثاءب بحضرة الملك. فأنا أنهيك عن التثاؤب.
فأجاب الأمير الصغير مرتبكًا: لا أستطيع أن أمنع نفسي منه فقد كانت رحلتي طويلة ولم أذُق نومًا.
قال: إذا كان الأمر كذلك فأنا آمرك بأن تتثاءب. إنّي لم أر أحدًا يتثاءب من زمان بعيد.والتثاؤب في
نظري أمر غريب نادر. فتثاءب وتثاءب أيضًا. هذا أمر منّي فأطع.
قال الأمير الصغير وقد احمرَّ خجلًا: إنّ أمرك هذا يثير اضطرابي فلا أقوى على التثاؤب.
قال الملك: آمرك إذن بأن تتثاءب حينًا وتمتنع حينًا. وأخذ يتمتم ويدمدم ويبدي الكدر. ذلك لأنّ الملوك
تحرص حرصًا كثيرًا على أن تُحترم هيبتهم وسلطتهم فلا يتساهلون في أمر الطاعة. وكان هذا الملك
مطلق السلطان غير أنّه كان طيّب النفس فلا يأمر إلّا بما يقرب من الصواب.
ومن أقواله التي كان يرددها: إنّي لو أمرت قائدًا أن يتحوَّل إلى طائر من طيور البحر وعصى القائد
أمري لما كان الذنب ذنبه بل ذنبي.
وسأله الأمير الصغير بصوت ينمُّ عن بعض الحياء والخجل: أيأذن لي الملك بالجلوس؟
قال الملك: إنّي آمرك بالجلوس فاجلس.
وجذب إليه بعزّة وجلال ذيلًا من ذيول معطفه السموريّ.
وكان الأمير يعجب من أمر الملك ويقول في نفسه: على من يملك الملك في هذا الكوكب الصغير؟
ثمّ سأل الملك قائلًا: أستميحك العذر مولاي في سؤالك عن بعض الشؤون.
فبادر الملك فقال: إنّي آمرك بأن تسألني.
قال الأمير: على من تملك يا مولاي؟
فأجاب الملك بكل بساطة: أملك على كلّ شيء؟
قال الأمير: على كلّ شيء.
قال الملك: على كلّ شيء.
لم يكن هذا الملك مطلق السلطان فحسب بل كان يبسط ملكه على العوالم كافة.
وقال له الأمير: وهل تطيعك النجوم؟
قال الملك: كيف لا فإنّها تلبّي في الحال أوامري وإنّي لا أطيق عصيانها واختلال النظام فيها.
فعجب الأمير الصغير لمثل هذا السلطان وقال في نفسه: لو كنت على شيءٍ من هذا لشهدت في اليوم
ستّين غروب شمس لا أربعة وأربعين، بل لشهدت منها مئة ومئتين دون الاضطرار إلى جرِّ كرسيّ من
مكانه إلى مكان. وشعر بكآبة تغمر نفسه عندما تذكر كوكبه الصغير الذي هجره. ثمّ تشدّد وتجرأ فقال:
وددت لو شهدت غروب الشمس. تكرَّم عليّ يا مولاي بأن تأمر الشمس بالغروب.
فقال الملك: لو أمرت قائدًا من قوادي أن يطير من زهرة إلى زهرة كما تفعل الفراشات أو أن يؤلّف
مأساة أو أن يتحوّل إلى طائر من طيور البحر ولم يذعن القائد لأمري فمن يكون المخطئ منّا؟ هو أم أنا؟
فأجاب الأمير بقوة ورباطة جأش: أنت يا مولاي.
فقال الملك: هذا هو الصواب، فليس من الحكمة أن يُطلب من المرء ما يكون فوق طاقته، إنّ أول أركان
السلطة العقل. ألا ترى أنّ الشعب إذا أمرته بأن يلقي بنفسه في البحر استسلم للفتنة وثار عليك. أمّا
أوامري فإن أنا اقتضيت تنفيذها فذلك لأنّها تنّفذ.
وذكّر الأمير الصغير الملك بغروب الشمس فأنّه ما كان ليغفل عن سؤالٍ طرحه.
فقال له الملك: إنّك ستشهد غروب الشمس. فإنّي سآمرها بالغروب لكن عليّ أن أنتظر الوقت المؤاتي.
هذا ما تقتضيه آداب الحكم.
فقال الأمير: متى يكون الوقت مؤاتيًا؟
قال الملك بعد أن نظر في رزنامة ضخمة: يكون الوقت ملائمًا هذا المساء عند الساعة السابعة والدقيقة
الأربعين. وعندئذٍ ترى أنّي مُطاع في أوامري.
فتثاءب الأمير الصغير وأسف أنّه أخطأ غروب الشمس ثمّ استولى عليه الملل فقال: لم يبقَ لي من حاجة
هنا فأنا ذاهب.
وكان الملك معتزًّا بأنّ له من يأمره وينهيه فقال: لا تذهب بل امكث هنا فأجعلك وزيرًا.
قال الأمير: وزير أيّ شيء؟
قال: وزير...وزير العدل؟
قال: كيف أكون وزير عدل وليس هنا من أحاكمه؟
قال: من يدري! أنا لم أجُب بعد أنحاء مملكتي وقد طعنت في السنّ وما من مكان في المملكة يتّسع لمركبة
أركبها. أما المشي فلا أطيقه.
قال الأمير بعد أن ألقى نظرة إلى الجهة الثانية من الكوكب: قد نظرت إلى جهات الكوكب جميعًا فلم أرَ
أحدًا.
قال الملك: تحاكم إذن نفسك بنفسك وهذا أصعب ما يكون إنّ مقاضاة المرء نفسه لأصعب من مقاضاته
غيره. فإذا أصدرت على نفسك حكمًا عادلًا صادقًا كنت حكيمًا حقًّا.
قال الأمير الصغير: إنّي أقاضي نفسي أنّى كنت فلا حاجة لي بالمكوث هنا.
قال الملك: أظنُّ أنّ في ناحية من أنحاء الكوكب جرذًا مسنًّا، أسمع له حركة في الليل، فلكَ أن تحاكمه
وتحكم عليه من وقت إلى وقت بالموت. وهكذا تتوقّف حياته على عدالتك ثمّ تعفو عنه لتستبقيه في
الكوكب فليس فيه غيره.
قال الأمير الصغير: أنا لا أُحبُّ القضاء بالموت على أحد. وأرى أن لا سبيل إلى ذلك هنا فأنا ذاهب.
قال الملك: لا، لا تذهب.
وبعد أن تأهّب الأمير الصغير للذهاب كره أن ينغص الملك الشيخ بعصيان أوامره، فقال له:
إذا شئت مولاي، أن تُطاع فمرني أمرًا مستطاعًا كأن تقول لي: إنّي آمرك بالذهاب قبل انقضاء دقيقة
واحدة. ويبدو لي أنّ الأحوال التي ترافق هذا الأمر هي مؤاتية.
ولم يجب الملك فتردّد الأمير ثمّ تنهّد وأخذ في طريقه فبادر الملك وصاح به قائلًا:
إنّي عيّنتك سفيرًا لي. وكان في صوته نبرة السلطة والعظمة.
فقال الأمير الصغير في نفسه: إنّ شأن الكبار لغريب. وردّد هذا الفكر في قلبه طوال رحلته.
11
وكان يسكن الكوكب الثاني رجل مزهوٌّ بنفسه فعندما لمح الأمير الصغير صاح قبل أن يدنو منه:
هذا زائر معجب بي.
إنّ ذوي الصلف والإدّعاء يعدّون سائر الناس من المعجَبين بهم.
وحيّاه الأمير الصغير قائلًا: عِم صباحًا! إنّي أرى لك قبّعة غريبة الشكل.
قال: هذي قبّعة أُحيّي بها المعجبين عندما يهتفون لي، غير أنّه، لسوء الطالع، لا يمرُّ أحدٌ من هنا.
قال الأمير الصغير: ماذا؟ ولم يدرك ما يعني الرجل.
قال الرجل: صفّق بإحدى يديك على الأخرى.
فصفّق الأمير بيد على الأخرى ورفع الرجل قبّعته قليلًا وحيّا بتواضع.
فقال الأمير الصغير في نفسه: زيارة هذا الرجل أدعى إلى اللهو والتسليّة من زيارة الملك.
وعاد فصفّق بيديه وعاد الرجل إلى التحيّة برفع قبّعته.
وبعد أن ظلّا على هذا مدّة خمس دقائق تعب الأمير الصغير من هذه اللعبة التي تستمرّ على نمط واحد
وسأل الرجل قائلًا: إذا أردنا أن نُسقط القبعة فماذا نصنع؟
فلم يجب الرجل لأنّ المعجبين بنفوسهم لا يصيخون إلّا إلى المدح والثناء.
ثمّ قال الرجل: أحقًّا أنك معجب بي كثيرًا؟
قال الأمير: وما معنى الإعجاب؟
قال الرجل: الإعجاب أن تقرَّ لي بأني أجمل رجل على هذا الكوكب وأني أحسن الرجال أناقةً وثوبًا
وأكثرهم غنى وذكاء.
قال الأمير: غير أنّك وحيد في كوكبك هذا.
قال: وإن أكن وحيدًا فاشرح صدري بأن تعجب بي.
قال الأمير، بعد أن هزَّ كتفيه: أنا معجب بك، لكن ما يهمّك إعجابي؟
وانصرف الأمير الصغير وهو يردّد في نفسه طوال رحلته: إنّ شأن الكبار لعجيبٌ حقًّا.
12
وكان يسكن الكوكب التالي رجلٌ سكّير فلم يُطل الأمير إقامته فيه غير أنّه شعر بكآبة كبيرة تغمر نفسه.
وكان السكّير جالسًا إلى المائدة، ملازمًا الصّمت ومن حوله مجموعة من القناني الفارغة ومجموعة من
القناني الملآنة. فقال له الأمير: ما تصنع هنا؟
قال السكّير بصوت ملؤه الحزن والأسى: أشرب.
قال الأمير: ولماذا تشرب؟
قال: لأنسى.
قال الأمير، وقد أخذته فيه الرأفة: لتنسى ماذا؟
قال السكّير وقد أطرق برأسه: لأنسى عاري.
قال الأمير الصغير، وقد أحسَّ برغبة في إسعافه ومساعدته: وأيُّ عار؟
قال: عار الشرب. قال هذا ولزم الصمت.
وانصرف الأمير الصغير متحيّرًا من أمره، وكان يردّد في نفسه طوال رحلته: إنّ شأن الكبار لعجيب.
13
وكان الكوكب الرابع كوكب " البزنسمان" رجل الأعمال فلمّا نزله الأمير الصغير كان الرجل منهمكًا كلّ
الانهماك حتّى أنّه لم يرفع رأسه فقال له الأمير: عِم صباحًا، هذي سيكارتك قد انطفأت.
أمّا الرجل فظلَّ منكبًا على حساباته يقول: ثلاثة واثنان خمسة. خمسة وسبعة اثنا عشرة، اثنا عشرة وثلاثة
خمس عشرة، عِم صباحًا. خمس عشرة وسبعة اثنان وعشرون. اثنان وعشرون وستة ثمانية وعشرون، لا
وقت لي فأشعلها، ستة وعشرون وخمسة واحد وثلاثون."أُف" فالحاصل إذن خمسماية مليون ومليون
وستماية واثنان وعشرون ألفًا وسبعماية وواحد وثلاثون.
قال الأمير: خمسماية مليون ماذا؟
قال الرجل: آه.لا تزال هنا؟ خمسماية مليون...خمسماية مليون لا أدري ماذا. إن أشغالي عظيمة جدًا حتى
إني لا أدري ما هي الخمسماية مليون. أنا رجل رصانة وجدّ. أنا لا ألهو بالترهات! اثنان وخمسة سبعة...
فكرّر الأمير السؤال قائلًا: خمسماية مليون ماذا؟ والأمير كما تعلم لم يطرح قط في حياته سؤالًا وغفل
عنه بعد طرحه.
رفع "البزنسمان" رأسه وقال: أنا أقطن هذا الكوكب منذ أربع وخمسين سنة وما شُوَّش عليَّ عملي إلا
ثلاث مرّات. ففي المرّة الأولى، لاثنتين وعشرين سنة خلت، عكّرت عليَّ صفو عملي خنفساء سقطت من
حيث لا أدري وأحدثت ضجّة هائلة فغَلطت أربع غلطات. وفي المرّة الثانية لإحدى عشرة سنة خلت،
أصبت بنوبة عصبيّة وذلك لأنّي لا أمارس شيئًا من الرياضة البدنيّة فعملي لا يترك لي متّسعًا من الوقت
للنزهة والتمشّي على الطرقات من غير ما قصد ولا غاية. أنا ذو رصانة وجدّ. أمّا المرّة الثالثة فهي هذه
المرّة. قلت خمسماية مليون ومليون...
قال الأمير: مليون ماذا؟
أدرك "البزنسمان" أنّ هذا السائل عنيد لا يميل إلى المسالمة فقال: ملايين من هذه الهنات التي ترى أحيانًا
في السماء.
قال الأمير: أتكون ملايين من الذبان؟
قال: لا. بل هنات صغار تضيء.
قال: أتكون من النحل؟
قال: لا. بل هنات صغار مذهّبة. يسبح أمامها الكسالى في بحار من الأحلام. أمّا أنا فرجل رصين رزين
لا يتّسع وقتي للأحلام.
قال: هي النجوم.
قال: هي النجوم إذن؟
قال: وما تصنع بخمسماية مليون من النجوم؟
قال:خمسماية مليون ومليون واثنان وعشرون ألفًا وسبعماية وواحد وثلاثون. أنا رجل رزين أُحبُّ الضبط
والدقّة.
قال: وما تصنع بهذه النجوم؟
قال: ماذا أصنع بها؟
قال: نعم. ما تصنع بها؟
قال: لا شيء. إنّما أنا أملكها.
قال: إنك تملك النجوم؟
قال: نعم أملكها.
قال: رأيت ملكًا...
فقاطعه الرجل قائلًا: الملوك لا تملك بل تسود، والفرق بين اللفظتين شاسع جدًّا.
قال: وما تجني من امتلاك النجوم؟
قال: إنّي بها غني.
قال: وما الفائدة من غناك؟
قال: أشتري النجوم الأخرى كلّما اكتشفها مكتشف.
قال الأمير في نفسه: إنَّ تفكير هذا الرجل لغريب عن تفكير السكارى.على أنّه طرح عليه أيضًا بعض
الأسئلة وقال: كيف يسع المرء أن يمتلك النجوم؟
قال الرجل متذمّرًا: لمن هي النجوم؟
قال: لا أدري لا أظنّها لأحد.
قال: إذن هي لي لأنّي أول من فكّر بامتلاكها.
قال: أيكفي هذا لأن تكون لك؟
قال: كيف لا. إذا وجدت ماسة ليست لأحد من الناس فأنّها تصبح لك. وإذا اكتشفت جزيرة ليست لأحد من
الناس فإنّها تصبح لك. وإذا خطرت على بالك فكرة لم تخطر على بال أحد من الناس سجلتها وأخذت
براءة بها فهي لك دون سواك. وعلى هذا فأنا أملك النجوم لأنه ما من أحد فكّر قبلي في امتلاكها.
قال الأمير الصغير: هذا هو القول الحقّ. لكن ماذا تصنع بالنجوم؟
قال: إنّي أسوسها وأعدّها ثمَّ أعدّها، ولا يخفى ما في ذلك من الصعوبة غير أنّي رجل رزين رصين.
ولم يقتنع الأمير الصغير كلّ الاقتناع بهذا الجواب فقال: إذا كان لي أنا منديل وضعته حول عنقي إذا
شئت، وذهبت به أنّى شئت، وإذا كان عندي زهرة قطفتها وذهبت بها إذا شئت، أمّا أنت فلا تقوى على
اقتطاف النجوم.
قال: أنا لا أقوى على اقتطافها غير أنّي أستطيع وضعها في المصرف.
قال: ماذا تعني؟
قال: أعني أنّي أقيّد في ورقة صغيرة عدد نجومي ثمّ أضع الورقة في درج وأقفل عليها.
قال: هذا كلّ ما تصنع؟
قال: هذا يكفيني.
ففكر الأمير في نفسه قائلًا: تصرّف هذا الرجل تصرّف مضحك يكاد يكون شعريًا، غير أنّه ليس على
شيء من الجدّ والرزانة.
كان للأمير الصغير رأي في الأمور الجدّية تختلف كلّ الاختلاف عن رأي الكبار من الناس.
ثمّ تابع الأمير الصغير قائلًا: أنا عندي زهرة أسقيها كلّ يوم وعندي ثلاثة براكين أنظّفها مرّة في كل
أسبوع. وبينها بركان خامد أنظّفه أيضًا فقد يهيج هذا البركان، فامتلاكي للبراكين والزهرة تفيد منه
البراكين والزهرة. أمّا أنت فلا تفيد النجوم منك شيئًا.
ففتح البزنسمان فمه للجواب، لكنّه لم يجد ما يقول، وانصرف الأمير الصغير في حال سبيله.
وكان يردّد طوال رحلته: إنّ شأن الكبار لشأن غريب.
14
وكان الكوكب الخامس الذي هبط إليه الأمير الصغير على غاية من الغرابة فإنّه كان أصغرها لا يتسع إلا
لعمود في رأسه مصباح ولقيّم عُهد إليه بإضاءة المصباح وإطفائه. وحاول الأمير الصغير أن يدرك النفع
من مصباح وقيّم عليه، يضيئه ويطفئه في ناحية من السماء، على كوكب خال، من المساكن، فلم يفلح بيد
أنّه قال في نفسه:
قد يكون هذا الرجل أخرق على أنّه أقل حماقة من الملك ومن المعجب بنفسه ومن البزنسمان ومن السكّير.
فلعمله بعض المعنى فهو إن أضاء المصباح كأنّه خلق نجمة جديدة أو زهرة جديدة وإذا أطفئه كأنّه أرقد
النجمة أو الزهرة فعمله عمل لطيف جميل. وكلّ عمل جميل لا بدَّ نافع.
وعندما نزل الأمير إلى الكوكب حيَّا الرجل بكلّ احترام قائلًا: عِم صباحًا. قل لي لماذا أطفأت المصباح؟
قال الرجل: هي الأوامر. عِم مساءً.
قال الأمير: وما تعني بالأوامر؟
قال: الأوامر أن أطفئ المصباح. عِم مساءً.
وأضاءه.
قال الأمير: إذا كانت الأوامر تقضي بإطفائه فلماذا أضأته؟
قال: هي الأوامر.
قال: لا أدرك ما تعني.
قال: لا حاجة للفهم والإدراك. الأوامر هي الأوامر. عِم صباحًا. وأطفأ المصباح.
ثمّ مسح العرق عن جبينه بمنديل فيه مربّعات حمر وبيض.
ثمّ قال: إنَّ مهنتي هذه لمهنة شاقة. كانت هذه المهنة من قبل شيئًا معقولًا. كنت أطفئ المصباح في
الصباح وأضيئه في المساء وأقضي بقيّة يومي في الراحة وبقيّة الليل في النوم...
قال الأمير: وهل تبدّلت الأوامر منذ ذلك الحين؟
قال: لم تتبدّل الأوامر إنّما المأساة في تبدّل أطوار الكوكب. فإنّ سرعة دورانه آخذة في الازدياد سنة عن
سنة أما الأوامر فلم تتغيّر.
قال الأمير: وما عاقبة ذلك؟
قال الرجل: أصبح هذا الكوكب يدور على نفسه مرّة في الدقيقة فلم يبق لي ثانية أرتاح فيها فأنا أضيئ
وأطفئ مرّة في كلّ دقيقة.
قال: أمر غريب! لا يلبث النهار عندك إلّا دقيقة واحدة.
قال: ليس الأمر على ما ترى من الغرابة. فقد انقضى شهر منذ أن بدأ حوارنا.
فقال متعجّبًا: انقضى شهر؟
قال: شهر أي ثلاثون دقيقة أي ثلاثون يومًا. عِم مساءً.
وأضاء المصباح.
وتأمّله الأمير الصغير وأحبّه لتمسّكه بالأوامر وإخلاصه في تنفيذها. ثمّ تذكّر يوم كان يجر كرسيه من
مكانه إلى مكان ليتمتع بمشاهدة الشمس عند جنوحها للغروب. وشاء أن يؤدي خدمة لصديقه فقال له:
أنا أعرف وسيلة تستطيع الراحة معها متى شئت.
قال: هات نرَ.
قد يمكن الجمع في بعض الأحيان بين الكسل و الأمانة.
وتابع الأمير قائلًا: إن كوكبك صغير جدًّا حتى أنك تدور من حوله في ثلاث خطوات فما عليك إلّا أن
تمشي مشيًا بطيئًا فتبقى دائمًا في الشمس فإذا أردت الاستراحة مشيت وطال نهارك على قدر ما تريد.
قال: ليس في هذا كبير فائدة لي فإن لذتي من الحياة أن أنام.
قال: هذا من سوء الحظ.
قال: هذا من سوء حظي. عِم صباحًا.
وأطفأ المصباح.
فردّد الأمير في نفسه وهو في رحلته إلى موطن آخر: هذا رجل لو عرفه الملك والمعجب بنفسه والسكّير
والبزنسمان وغيرهم من الناس لاحتقروه، بيد أنّه الرجل الوحيد الذي لا أرى فيه ما يضحك وقد يكون هذا
لاهتمامه بغيره دون نفسه.
وتنهّد تنهُّد الأسف على فراقه وقال: هذا هو الرجل الوحيد الذي لو استطعت لاتخذته صديقًا غير أن
كوكبه غاية في الصغر فلا يتسع لاثنين.
أما الحقيقة التي ما كان الأمير ليبوح بها لنفسه فهي أنه أسِف على مغادرة الكوكب المبارك حيث تغرب
الشمس ألفًا وأربعماية مرة في خلال أربع وعشرين ساعة.
15
وكان الكوكب السادس أكبر كوكب نزل فيه الأمير فهو أرحب منها بعشرة أضعاف ويقطنه رجل شيخ
منكبّ على كتابة مؤلفات ضخمة. فلما لمح الأمير الصغير صاح: هذا رائد من الرواد.
وجلس الأمير الصغير على زاوية من "الطاولة" وتنفَّس قليلًا لما ناله من التعب في أثناء رحلته الطويلة.
وقال له الرجل الشيخ: من أين أقبلت؟
قال الأمير: ما هذا الكتاب الضخم. وما تصنع أنت هنا؟
قال: أنا جغرافي.
قال: وما الجغرافي؟
قال: الجغرافي عالم يعرف مواقع البحار والأنهر والمدن والجبال والصحارى.
قال: هذا علم يسترعي الانتباه ويثير الفضول. وهو مهنة حقيقية لا كالمهن التي عرفتها في الكواكب
الأخرى.
وأجال لحظه فيما حوله من كوكب الجغرافي فاستعظمه لأنه ما كان رأى من قبل كوكبًا على مثل هذه
الفخامة ثمّ قال: إن كوكبك لجميل، فهل يشتمل على بحار محيطة؟
قال الجغرافي: هذا ما لا يسعني معرفته.
فخاب أمل الأمير به وقال: وهل فيه جبال؟
قال: هذا ما لا يسعني معرفته.
قال: وهل فيه مدن وأنهار وصحارى؟
قال: وهذا أيضًا مما لا يسعني معرفته.
قال: كيف لا تعرف هذا وأنت عالم جغرافي؟
قال: هذا القول الصواب غير أني لست من الرواد وليس عندي أحدٌ منهم. فالجغرافي لا يجوب الأقطار
ليعدَّ المدن والأنهر الجبال والبحار الداخلية منها والمحيطية، والصحارى، إنه لا يتلهّى بإضاعة وقته في
الانتقال من مكان إلى مكان بل يلزم مكتبه ، يستقبل الرواد فيه ويسألهم ويسجل ذكرياتهم واختباراتهم وإذا
بدا له أنها تستحق الاهتمام كلَّف بعضهم القيام بتحقيق عن أخلاقه وسلوكه.
قال: ولم هذا؟
قال : لأن الرائد إذا كان كذابًا أدّى كذبه إلى كوارث عدة في كتب الجغرافية وكذلك إذا كان سكيرًا مدمنّا
الشرب...
قال الأمير الصغير: وكيف يكون ذلك؟
قال: لأن السكير يرى الأشياء مزدوجة فحيث يكون جبل واحد يرى السكّير جبلين.
فيذكر الجغرافي جبلين بدلًا من جبل واحد.
قال الأمير الصغير: أنا أعرف رجلًا لا يصلح أن يكون رائدًا.
قال: من الممكن أن تعرف مثل هذا الرجل. أمّا إذا تبيّن حسن أخلاق الرائد وسلوكه فيحقّق في اكتشافه.
قال: يذهب المحقّق إذن إلى محل الاكتشاف؟
قال: لا فهذا أمر صعب معقّد إنما يطلب من الرائد أن يقيم الدليل على اكتشافه فإذا اكتشف مثلًا جبلًا
عظيمًا طُلب منه أن يأتي من الجبل بحجارة ضخمة.
واضطرب الجغرافي فجأة وقال: وأنت، فإنك آتٍ من بلد بعيد، أنت من الرواد فصف لي كوكبك.
وفتح الجغرافي سجله وبرى قلمه الرصاصي وتهيأ للكتابة فإن كتابة أخبار الرواد بالحبر لا تكون إلّا بعد
أن يقدّم الرواد الأدلة القاطعة.
ثمّ قال: هات ما عندك.
قال الأمير الصغير: ليس عندي ما يثير الاهتمام كثيرًا فكوكبي كوكب صغير فيه ثلاثة براكين بركانان
منها مشتعلان أمّا الثالث فخامد. ومن يدري فقد يهيج يومًا.
قال الجغرافي: من يدري؟
قال: وعندي أيضًا زهرة.
قال: نحن لا نذكر الأزهار.
قال: ولماذا؟ إنها أجمل زهرة في الأزهار.
قال: لأن الأزهار سريعة الزوال.
قال: ما تعني بسريعة الزوال؟
قال الجغرافي: كتب الجغرافية هي أعظم الكتب شأنًا فإنها لا تتبدل بتبدل الأزياء والعادات، وقلَّ أن ترى
جبلًا يتحوّل عن مكانه، وبحرًا ينضب ماؤه. فنحن، الجغرافيين، نسجل الأشياء الخالدة.
قال الأمير الصغير: لكن البراكين الخامدة قد تستيقظ يومًا فما معنى سريعة الزوال؟
قال: لا فرق عندنا نحن، الجغرافيين، بين أن تكون البراكين راقدة أو مستيقظة فما نعتدّ به إنما هو الجبل
والجبل لا يتغير.
وألحَّ الأمير الصغير في سؤاله فإنه ما أهمل قط في حياته سؤالًا طرحه، قال: لكن ما تعني بسريعة
الزوال؟
قال: أعني أنها مهددة باضمحلال قريب.
قال: فزهرتي إذن مهددة باضمحلال قريب.
قال: هذا مما لا ريب فيه.
وقال الأمير في نفسه: زهرتي قريبة الزوال. ليس لها إلّا أربع أشواك للمدافعة عن نفسها وقد تركتها
وحيدة في موطني.
وشعر لأول مرة بغم شديد لفراقها، بيد أنه تنشّط وسأل الشيخ قائلًا: ماذا تنصح لي بأن أزور من
الكواكب؟
قال: زر الأرض فإنها تتمتع بسمعة طيبة.
وانصرف الأمير الصغير وهو يفكر بزهرته.
16
كانت الأرض سابع الكواكب التي حطَّ فيها الأمير الصغير رحاله. ليست الأرض كوكبًا قليل الشأن لا يؤبه
له، ففي الأرض مئة وأحد عشر ملكًا (ومنهم بالطبع الملوك الزنوج) وفيها سبعة آلاف جغرافي وتسعماية
ألف من رجال الأعمال أي من نوع "البزنسمان" وسبعة ملايين ونصف مليون من السكيرين ، وثلاثماية
مليون وأحد عشر مليونًا من المعجبين بنفوسهم أي ما يقارب المليارين من كبار الناس (وأنت تدري ما
أعني بكبار الناس).
فلو أردت أن أكوّن لك فكرة عن مساحة الأرض لقلت لك: إنه كان على القارات الست، قبل اكتشاف
الكهرباء، جيشٌ جرار من القيّمين على المصابيح يبلغ عددهم أربعماية ألف واثنين وسبعين ألفًا وخمسماية
وأحد عشر قيّمًا.
فمن نظر إلى هذا الجيش من مرتفع عالٍ رأى مشهدًا رائعًا، فأن حركات هذا الجيش كانت على انتظام
دقيق كحركات الراقصين والراقصات على مسرح (الأوبرا)، فكان أول الداخلين إلى حلقة الرقص قيّمو
المصابيح في زيلندة الجديدة وأسترالية، فإذا أضاؤوا مصابيحهم ذهبوا إلى مضاجعهم وعقبهم القيّمون في
الصين وسيبيرية ثمّ اختفوا وراء ستائر المسرح، وخلفهم القيّمون في روسية والهند ثمّ القيّمون في أفريقية
وأوروبّا ثمّ أمريكا الجنوبيّة ويليها أمريكا الشماليّة. وما كان هؤلاء القيّمون جميعًا يُخطئون مقدار شعرة
في أوقات دخولهم المسرح وخروجهم منه. ولا يخفى ما في هذا من الروعة والجلال.
وقد تفرّد قيّم مصباح القطب الشمالي وزميله في القطب الجنوبي بعيش البطالة والكسل، فإنهما ما كانا
ينصرفان إلى عملهما إلّا مرتين في السنة.
17
من سعى وراء النكتة اضطر إلى الكذب ولو قليلا، فإنني لم أكن صادقًا كلّ الصدق حين تكلمت عن
مُشعِلي المصابيح في الأرض، وقد أكون أدخلت في روع ما يجهل كوكبنا فكرة كاذبة عنه، فإن البشر لا
يشغلون من الأرض إلّا مكانًا ضئيلًا، فلو اجتمع المليارات من الناس وانتصبوا واقفين متلازين كما
يفعلون في حفلة رياضية أو خطابية لتيسر لهم الإقامة في ساحة عمومية طولها عشرون ألف ميل
وعرضها عشرون ألف ميل، فأصغر جزيرة من جزر المحيط الهادئ تتسع لإيواء الجنس البشري بجملته.
لو رددت ما ذكرنا على الكبار من الناس لما صدقوك، فهم يتصورون أنهم يشغلون من الأرض مكانًا
عظيمًا، ويعتقدون أنهم يشبهون البوبابات خطورة، فأنصح لهم أن يلجأوا إلى الحساب للتثبت مما قدمت.
إنهم يتعشقون الأرقام ويجدون فيها لذة عظيمة. أما أنت فلا تضع وقتك في مثل هذا العمل الشاق فما فيه
من فائدة لك بل كن على ثقة من كلامي.
وبعد أن حلَّ الأمير الصغير في الأرض نظر حوله فلم يرى أحدًا، فحار في أمره وخشي أن يكون قد هبط
في كوكب غير الأرض. وهو في حيرته إذا بحلقة بلون القمر تتحرك في الرمل فخاطبها جزافًا قائلًا:
عمي مساءً !
قالت الحية : عِم مساءً!
قال الأمير: على أيُّ الكواكب هبطت؟
قالت: على الأرض في أفريقية.
قال: آه. أتكون الأرض خالية من الناس؟
قالت: هذي الصحراء، والصحارى لا يقطنها أحد، أمّا الأرض فكبيرة.
وجلس الأمير الصغير على صخرة هناك ورفع نظره إلى السماء وقال:
ترى تضاء النجوم ليتمكّن كل إمرىء من الاهتداء إلى نجمته. أنظري إلى كوكبي فإنه فوقنا توّا...لكن ما
أبعده!
قالت الحيّة: إنه لكوكب جميل. لكن قل لي ما جاء بك إلى هنا؟
قال: أنا على اختلاف مع زهرة.
فتعجّبت الحيّة ولزما الصمت زمنًا ثم قال الأمير الصغير: والناس أين هم؟ إن الصحراء لموحشة يشعر
المرء فيها بعزلة وانفراد.
قالت الحية : يشعر المرء بعزلة وانفراد حتى بين الناس.
فنظر الأمير الصغير إلى الحية طويلًا ثمّ قال:
إنك لحيوان غريب عجيب. تشبهين في نحافتك إصبع اليد.
قالت: غير أني أشدُّ بطشًا من إصبع الملوك.
فابتسم الأمير وقال:
لا أراك على ما تدعين من القوة والبطش فلا قوائم لك ولا تستطيعين الرحلة من مكان إلى آخر.
قالت: في طاقتي أن أحملك إلى مكان لا تستطيع البواخر بلوغه.
والتفت على كعب الأمير الصغير فكانت كخلخال من ذهب. ثم قالت:
إذا لمست أحدًا رددته إلى التراب الذي خرج منه. غير أنك طاهر القلب وقد هبطت علينا من إحدى
النجوم. فلم يحر الأمير جوابًا.
فأردفت الحية قائلة: إني لتأخذني فيك رأفة، أنت ضعيف على هذه الأرض القاسية الصلبة فإذا حننت
يومًا إلى كوكبك أعنتك على العودة إليه.
قال الأمير: إني أدرك جيدًا ما تعنين. لكن قولي لي : لماذا تتكلمين دائمًا بالألغاز؟
قالت الحية : أنا أحلُّ الألغاز جميعًا.
قالت هذا وسكتت الحية وسكت الأمير.
18
اجتاز الأمير الصغير الصحراء ولم يعثر فيها إلا على زهرة واحدة لها أوراق ثلاث. وكانت زهرة حقيرة
لا آبه لها. فقال لها الأمير : عِمي صباحًا.
قالت الزهرة: عِم صباحًا.
فسألها الأمير بلطف قائلًا: أين الناس؟
وكانت الزهرة قد رأت يومًا قافلة تقطع الصحراء فقالت:
الناس؟ أظنّ أن على الأرض من هذه المخلوقات ستة أو سبعة وقد لمحتهم منذ سنوات خلت. غير أني لا
أدري أين تجدهم. فالريح تذهب بهم كل مذهب لخلوهم من الجذور في الأرض فهم لا يستطيعون الثبات
في مكان.
قال الأمير: وداعًا أيتها الزهرة.
قالت الزهرة : وداعًا.
19
وصعد الأمير الصغير إلى قمة جبل عال وما كان يعهد من الجبال سوى البراكين الثلاثة وما كانت
تتجاوز ركبتيه علوًا فكان يتّخذ البركان الخامد مقعدًا له. ولما صار في رأس الجبل قال في نفسه:
من هذا الجبل العالي أشرف على الأرض كلها وأرى منه الناس جميعًا.
غير أنه لم ير إلا مسلات محددة من الصخور فقال جزافًا: عِمي صباحًا.
فأجابه الصدى: عِمي صباحًا. عِمي صباحًا. عِمي صباحًا.
فقال الأمير: من أنتِ؟
فأجاب الصدى: من أنتِ؟ من أنتِ ؟ من أنتِ؟
قال الأمير: كوني لي أصدقاء ، فأنا هنا وحيد.
فأجاب الصدى: أنا هنا وحيد. أنا هنا وحيد. أنا هنا وحيد.
فقال الأمير في نفسه : ما أعجب هذا الكوكب! إنه قاحل، جاف، مَلح، حافل بالمسلات الصخرية. أما
سكانه فلا قدرة لهم على الابتداع والتخيل، فهم يرددون ما يسمعون. أين هذي الأرض من موطني! هناك
زهرة واحدة، لكنها لا تنفك عن الكلام بل تكون دومًا البادئة.
20
وبعد أن مشى الأمير الصغير زمنًا طويلًا في الرمل وبين الصخور والثلوج اتفق له أن عثر على طريق
فأخذ فيها فأفادت به، كما تؤدي الطرق إلى الأماكن الآهلة. وكان أول ما لقيه حديقة ورد فصبح قائلًا:
عمي صباحًا.
فأجابت الورود: عِم صباحًا.
ونظر إليها الأمير فإذا هي جميعها تشبه وردته فقال مدهوشًا: من أنت؟
قالت الورود: نحن الورود.
فتأوه الأمير الصغير وأحسَّ طعم الأسى والحزن في قلبه. ألم تقل له وردته أنها الوحيدة في الكون، من
نوعها! وهو يرى الآن في حديقة واحدة خمسة آلاف من الورود كلها شبيهة بها.
وقال في نفسه: لو رأت وردتي هذه الورود لشقّ عليها ذلك، ولأحّت أحًّا كثيرًا، ولتماوتت تخلصًا من
هزئي بها فاضطر أنا أيضًا إلى التصنع وإبداء الاهتمام والاعتناء وإلا ماتت لمجرد الكيد والرغبة في
إذلالي كما أذللتها بإنبائها أنها ليست الوحيدة من نوعها.
ثم قال أيضًا في نفسه: كنت أحسبني غنيًا بامتلاكي زهرة فريدة فإذا هي من أزهار مألوفة عادية. فهذه
الزهرة والبراكين الثلاثة التي لا تبلغ ركبتيّ علوًّا (وقد يكون أحدها خامدًا إلى الأبد) لا يجعل مني أميرًا
خطيرًا. ثمّ تمدد في العشب وبكى.
21
وعندئذٍ برز ثعلب وحياه قائلًا: عِم صباحًا.
فقال الأمير الصغير بلطف: عِم صباحًا. تلفّت ولم ير أحدًا.
فقال الثعلب: أنا هنا تحت التفاحة.
قال الأمير الصغير : من تكون؟ إنك لجميل.
قال : أنا ثعلب.
قال: هلمَّ نلعب معًا فإني كئيب جدًا.
قال: ليس في طاقتي ملاعبتك فما أنا من الحيوانات الداجنة.
قال الأمير الصغير: فاعذرني إذن.
ثمّ أردف قائلًا بعد أن فكر قليلًا: وما معنى الداجنة؟
قال الثعلب: أنت لست من هنا فعمن تفتش؟
قال: أفتش عن الناس. لكن قل لي ما معنى الداجنة؟
قال الثعلب: الناس عندهم البندقيات يتصيدون بها. وهذا من الأمور المزعجة. ثمّ إنهم يربون الدجاج
لمآربهم ولا يهتمون إلا لهذه المآرب فهل أنت تفتش عن الدجاج؟
قال الأمير الصغير: كلا، بل أفتش عن أصدقاء. لكن قل لي ما معنى التدجين؟
قال الثعلب: هذا أمر قد تناساه الناس أما معناه فإنشاء العلائق.
قال: إنشاء العلائق؟
قال الثعلب: هي الحقيقة بعينها. ولو أردت أن أضرب لك مثلًا لقلت: أنت حتى الآن في نظري ولد شبيه
بمئة ألف من الأولاد، لستَ بحاجة إلي ولا أنا بحاجة إليك، وأنا في نظرك ثعلب شبيه بمئة ألف من
الثعالب. أما إذا "دجّنتني" أصبح كل منا بحاجة إلى صاحبه وأصبحت في نظري فريدًا في العالم وأصبحت
في نظرك فريدًا في العالم.
قال الأمير الصغير: قد بدأت أدرك ما تعني... أعرف زهرة وأغلب ظني أنها "دجّنتني".
قال الثعلب: لا يُستبعد ذلك فعلى الأرض غرائب شتى.
قال الأمير الصغير: ليست زهرتي على هذه الأرض.
فارتبك الثعلب وقال: إذن هي على كوكب غير هذا الكوكب؟
قال: أجل.
قال: أيتصيدون على ذلك الكوكب؟
قال: لا.
قال: هذا مما يغري. لكن هل هناك دجاج؟
قال: لا.
قال: ليس من شيء كامل في الكون.
وتنهد ثمّ تابع كلامه متوسعًا في فكرته فقال: تجري حياتي على وتيرة واحدة. أقتنص الدجاج، والناس
يقتنصونني. والدجاج يشبه بعضها بعضًا وكذلك الناس فلا بدا لي من أن أملَّ وأضجر، فلو"دجنتني"
لانقشعت عني غيوم الكآبة، وأنارت الشمس حياتي، وميزت بين وقع الخطى فعرفت خطوك من خطى
سائر الناس، فإذا أحسست خطى غريبة اختفيت تحت الأرض، وإذا أحسست خطوك وقع في أذني وقوع
الأنغام فهببت إليك من حجري. ثمّ أنظر إلى تلك الحقول: إنها حقول ملأى بالقمح وأنا لا آكل الخبز فما
نفع لي بها ولا أذكر، بالنظر إليها شيئًا، وهذا مما يثير الحزن والكآبة.
فلو دجنتني لانقلبت هذه الحقول إلى شيء عجيب، فالسنابل التي ترتدي لون الذهب تذكرني بك وبشعرك
الذهبي، وإذا هبَّ نسيم على الحقول أحببت خشخشته بين السنابل.
وسكت الثعلب ونظر طويلًا إلى الأمير الصغير ثمّ قال: بحياتي عليك دجني.
قال الأمير: وددت لو أمكن ذلك غير أن الوقت لا يتسع ولا بد لي من اكتشاف بعض الأصدقاء والإطلاع
على أمور كثيرة.
قال الثعلب: لا يعرف المرء إلا ما دجن فالناس ليس عندهم من الوقت ما يمكنهم من معرفة شيء من
الأشياء. هم يشترون حاجاتهم جاهزة. وما من باعة يبيعون الأصدقاء فلا أصدقاء للناس. فإذا شئت أن
يكون لك صديق فدجني.
قال الأمير: ماذا ينبغي لي أن أصنع؟
قال الثعلب: عليك أن تكون صبورًا فتبدأ بالجلوس بعيدًا عني ولو قليلًا. فتكون بين الكلأ كما أنت الآن
وأنظر أنا إليك من طرف عيني وتلزم أنت الصمت فكثيرًا ما يؤدي الكلام إلى سوء التفاهم. ثمّ تأتي في
اليوم التالي وتجلس في مكان يكون أدنى إليّ من المكان الأول. وهكذا دواليك...
وعاد الأمير في الغد فقال له الثعلب: من الأفضل أن يكون مجيئك في الساعة نفسها فإذا كان وقت مجيئك
في الرابعة كنت سعيدًا منذ الثالثة، وكلما تقدمت الساعة زادت سعادتي، وعند دنو الساعة الرابعة
أضطرب وأقلق ثم أدرك بمجيئك قيمة السعادة. أما أن تجيء في أيّ وقت كان فما يربكني فلا أدري متى
أهيئ لك قلبي...لا بد لنا من "طقوس" نتبعها.
قال الأمير الصغير: وما "الطقوس"؟
قال الثعلب: وهذا أمر آخر قد تناساه الناس. الطقوس هي ما يجعل الأيام والساعات يختلف بعضها عن
البعض الآخر.
وإذا شئت مثلت لك بالصيادين فإن لهم طقوسًا متبعة. منها أنهم يراقصون ، أيام الخميس، الصبايا في
القرى. فأيام الخميس أيام نعيم الثعالب يسرحون فيها ويمرحون ويتجاوزون الحقول إلى الكروم، فلو كان
الصيادون يراقصون الصبايا في أي يوم كان من أيام الأسبوع، لتشابهت الأيام وحُرمت أيام نزهتي.
ودجن الأمير الصغير الثعلب وعندما حان وقت الرحيل تأوه الثعلب.
وقال: إذا ذهبت بكيت.
قال الأمير: الذنب ذنبك. ما كنت أرغب في أذيتك غير أنّك أحببت أن أدجنك.
قال الثعلب: هذا مما لا ريب فيه.
قال الأمير: لكنك سوف تبكي.
قال الثعلب: وهذا أيضًا مما لا ريب فيه.
قال الأمير: فأيُّ شيء أفدت إذن؟
قال الثعلب: أفدت أن شعرك بلون السنابل. ثم أضاف قائلًا: عد إلى الورود وأنظر إليها فتعلم أن وردتك
وحيدة بين الورود.
ثمّ عد إليّ وودعني فأطلعك على سرّ من الأسرار.
وعاد الأمير الصغير إلى الورود فنظر إليها وقال: هيهات أن تشبهن وردتي! أنتن لا تزلن في حكم
اللاشيء. فما من أحد "دجنكن" ولم تدجّن أنتن أحدًا. أنتن كما كان الثعلب. ثعلب شبيه بمئة ألف ثعلب على
أني جعلت منه صديقًا لي فبات منقطع المثيل في العالم.
فارتبكت الورود عند سماعها هذا الكلام.
وتابع الأمير قائلًا: أنتن جميلات، غير أنكن فارغات، فما من أحد يستهدف للهلاك من أجلكن. قد يمر
بعض الناس بزهرتي فيعتقد أنها شبيهة بكن على أنها فريدة وأعظم شأنًا منكن جميعًا، فهي الزهرة التي
سَقيتُ. وهي الزهرة التي صُنتُ بغطاء من البلور. وهي الزهرة التي أبدتُ من أجلها الحشرات المجتمعة
حولها إلا حشرتين أو ثلاثًا ليخرج منها فراشات تؤنسها. وهي الزهرة التي سمعتُ شكايتها وأصختُ إلى
تبجحها ونظرت مرارًا إلى سكوتها. هي زهرتي.
ثم عاد إلى الثعلب فودعه وودعه الثعلب وقال:
أما السرّ الذي وعدتك بالكشف عنه فهو على غاية من البساطة: لا يرى المرء رؤية صحيحة إلا بقلبه فإن
العيون لا تدرك جوهر الأشياء، فردد الأمير كلام الثعلب خشية أن ينساه.
وقال الثعلب: إن ما صرفت من الوقت في سبيل زهرتك، جعل من تلك الزهرة شيئًا خطيرًا.
وردد الأمير كلام الثعلب خشية أن ينساه.
وقال الثعلب: نسي الناس هذه الحقيقة فلا تنسها أنت فإنك مسؤول أبدًا عن كل شيء دجنته وإنك لمسؤول
عن وردتك.
فقال الأمير الصغير: أنا مسؤول عن وردتي، ورددها خشية أن ينساها.
22
ورأى الأمير الصغير عاملًا من عمال السكة الحديدية عُهد إليه بفتح الطرق للقطارات وتوجيهها فحياه
قائلًا: عِم صباحًا.
فأجاب العامل: عِم صباحًا.
قال: ماذا تصنع هنا؟
قال: أجمع المسافرين جماعات جماعات، كل جماعة من ألف نفس ثم أرسلهم في القطارات فتذهب بهم
تارة يمينًا وتارة يسارًا.
ومرّ قطار سريع يشع بالأنوار وله دويّ ولا دويّ الصواعق، فارتجّت غرفة العامل ارتجاجًا.
فقال الأمير: إنهم متعجلون فماذا يطلبون؟
قال العامل: سائق القاطرة نفسه لا يدري ما يطلبون.
ومرّ قطار آخر يشع بالأنوار وله دويّ. وذهب في اتجاه عكس اتجاه القطار الأول.
فقال الأمير الصغير: أتراهم عادوا من رحلتهم؟
قال العامل: لا إنما هؤلاء الناس أناس غيرهم. والقضية قضية تبادل فيما بينهم.
قال الأمير: ألم يكونوا راضين حيث كانوا؟
قال العامل: وهل يرضى المرء عن بلد يكون فيه؟
ومرّ قطار ثالث سريع يشع بالأنوار وله دويّ كدويّ الصواعق.
فقال الأمير الصغير: أتراهم يطاردون المسافرين السابقين؟
قال: لا يطاردون شيئًا فهم في داخل القطار يغطّون في نومهم أو يتثاءبون. ولئن كان من أحد يلصق أنفه
بزجاج النوافذ ليرى ما في الخارج فأولئك هم الأولاد.
قال الأمير: الأولاد وحدهم يدرون ما يصنعون. يصرفون الوقت في صنع دمية من الخزف ثم تعظم
الدمية في عينهم فإذا نُزعت منهم بكوا أمرّ البكاء.
قال العامل: هنيئًا لهم.
23
ورأى الأمير الصغير بائعًا فحياه قائلًا: عِم صباحًا.
قال البائع: عِم صباحًا.
وكان الرجل يبيع حبوبًا تنقع غلة العطاش، فإذا ابتلع العطشان منها حبة أغنته عن الشرب أسبوعًا كاملًا.
وقال له الأمير: لماذا تبيع هذه الحبوب؟
قال البائع: في بيعها وفر من الوقت كثير، فقد حسب الخبراء ما يقتصد كل امرىء من الوقت فوجدوا أنه
يقتصد ثلاثًا وخمسين دقيقة في الأسبوع.
قال الأمير الصغير: وبماذا تصرف هذه الدقائق؟
قال البائع: يصرفها كل إنسان كما يشاء.
فقال الأمير الصغير في نفسه: "أما أنا فلو كان لي خمس وثلاثون دقيقة لا أدري ما أصنع بها لصرفتها
في التمشي وئيدًا إلى عين ماء".
24
كان قد مضى على حادث طيارتي في الصحراء ثمانية أيام وقد شربت آخر نقطة من الماء حين كنت
أسمع قصة بائع الحبوب. فقلت للأمير الصغير: جميلة ذكرياتك هذه! غير أني لم أصلح بعد طائرتي وقد
نفذ الماء، فليت لي أنا أيضًا أن أتمشى وئيدًا إلى عين ماء.
فقال الأمير الصغير: صديقي الثعلب...
فقاطعته قائلًا: ما لنا ولصديقك الثعلب...
قال: لماذا؟
قلت: لأننا سنهلك عطشًا.
فلم يدرك مغزى كلامي فأجاب: من الخير أن يكون للمرء صديق حتى وإن كان مشرفًا على الهلاك. أما
أنا فإني سعيد بأن يكون لي صديق من الثعالب.
فقلت في نفسي: إنه لا يقدر ما نحن فيه من الخطر حقَّ قدره وكيف له أن يدرك وهو لا يجوع ولا
يعطش. فقليل من الشمس يكفيه.
وكأنه وعى ما دار في خاطري فقال: أنا أيضًا عطشان فلنلتمس لنا بئرًا.
فأتيت حركة دلت على تعبي وقنوطي فكأني أقول بها: من الطيش أن نفتش جزافًا عن بئر في هذه
الصحراء المتمادية الأطراف. على أننا أخذنا في المشي.
وبعد أن قضينا ساعات طوالًا ونحن صامتان، خيّم الليل وبدأت النجوم تتلألأ في القبة الزرقاء فكنت أنظر
إليها كمن ينظر في حلمٍ لما نابني من حمّى العطش. وكانت كلمات الأمير الصغير تتراقص أمام ذاكرتي.
فقلت له: وأنت تعطش أيضًا؟
فلم يجب على سؤالي بل اكتفى بأن قال: ربما نقع الماء غلة القلوب.
فلم أدرك معنى لجوابه وسكتُ...لعلمي أن من العبث طرح الأسئلة عليه. وكان قد تعب فجلس وجلست
بالقرب منه وساد الصمت بيننا.
ثم قال: النجوم جميلة لأن فيها زهرة لا ترى.
فأجبت قائلًا: صدقت. ولم أزد ونظرت إلى غضون الرمال تحت أشعة القمر.
فأضاف: والصحراء جميلة أيضًا.
وكانت الصحراء جميلة. إني أحببت الصحراء منذ أن ولدت. في الصحراء يجلس المرء على كثيب من
الرمل ولا يرى شيئًا ولا يسمع شيئًا على أنه يشعر بشيء يشعّ في صمتها.
وقال الأمير: إنما يجعل الصحراء جميلة هو أنّها تخفي بئرًا في ناحية من أنحائها. فدهشت عند سماعي
كلامه لأني أدركت فجأة سرّ إشعاع الرمال. وذكرت بيتًا كنت أسكنه في حداثتي وكان بيتًا قديمًا جاء في
إحدى الأساطير أن فيه كنزًا مدفونًا. لم يكتشف أحد هذا الكنز وربما لم يخطر على بال أحد أن يكتشفه
على أن الكنز كان يجلل البيت بشيء من السحر والفتون وذلك لأن بيتي كان يخفي سرًّا في قلبه.
قلت للأمير الصغير: إنما ما يهب الأشياء جمالها هو شيء خفي لا تراه العيون سواء أكانت تلك الأشياء
صحارى أم بيوتًا أم نجومًا.
فقال الأمير: يسرني أن تكون في اتفاق في الرأي مع الثعلب.
وغلب النعاس على الأمير الصغير فحملته بين ذراعي وعاودت سيري وقد أخذ التأثر مني مأخذًا بليغًا
فكنت أتصوّر أني أحمل كنزًا سريع العطب ليس على الأرض شيء أسرع منه إلى العطب. وكنت أنظر
في نور القمر إلى ذلك الجبين الشاحب والعينين المغمضتين وخصل الشعر الأشقر يداعبها النسيم وأقول
في نفسي: لا أرى منه إلا قشرته أما الشيء الجلل فيه فخفيّ عني.
وافترت شفتاه عن ابتسامة خفيفة فقلت أيضًا في نفسي: إنما يؤثر فيَّ هذا الأثر من هذا الأمير الصغير
النائم هو إخلاصه لزهرته، إنما هو صورة هذه الوردة التي تشع في صدره إشعاع المصباح حتى أثناء
رقاده. وعندما خطرت هذه الصورة في بالي زاد شعوري بسرعة انعطابه فإن المصباح ليطفئه أدنى ريح
تهب عليه، فعلى صاحبه أن يصونه دون كل ريح.
ثمّ تابعت المسير وعثرت على البئر عند طلوع الفجر.
25
قال الأمير الصغير: يحتشد الناس في القطارات السريعة وقد غرب عن بالهم ما يطلبون فهم في حركة
دائمة يدورون في حلقة حول نفوسهم.
ثمّ أردف: وما تجدي هذه الحركة؟
بلغنا بئرًا لم تكن كآبار الصحراء حفائر في الرمل، أما البئر التي وجدناها فهي أشبه بآبار القرى على أنه
لم يكن من قرية هناك. وكنت أحسب نفسي في حلم فقلت للأمير الصغير: عجيب أمر هذه البئر. كل شيء
جاهز فيها ففيها البكرة والدلو والحبل.
فضحك الأمير الصغير وقبض على الحبل وأدار البكرة فأنّت كما تئن دوارة الهواء إذا هبت عليها الريح
بعد سكون طويل.
وقال الأمير الصغير: ألا تسمع، فإننا أيقظنا هذه البئر فأخذت في الغناء.
وخشيت أن يتعب فقلت له: دعني أستقي فإن هذا العمل لمضنك.
وطفقت أسحب الدلو وئيدًا حتى بلغ حافة البئر فأثبته عليها، وغناء البكرة لا يزال يتردد في سمعي، وكان
الماء في الدلو يضطرب فرأيت فيه أشعة الشمس تضطرب.
وقال الأمير الصغير: إني عطشان لهذا الماء فاسقني منه.
وأدركت ما يقصد. فرفعت الدلو وأدنيته من شفتيه فشرب وعيناه مغمضتان، فكان مشهدًا حلوًا ومهرجانًا
روحيًا، فإن هذا الماء لم يكن شرابًا كسائر الأشربة بل إنه نَبع من سُرانا تحت النجوم، ومن غناء البكرة،
ومن تعب ذراعي، فهو لذيذ على القلب، يتلقاه القلب كما يتلقى الهديّة. وذكرت أني لما كنت طفلًا صغيرًا
وكانت تقدم إليَّ الهدايا في عيد الميلاد، كان نور شجرة الميلاد، وموسيقى قداس نصف الليل، ولطافة
ابتسامات الأهل والأقارب، تشعّ في تلك الهدايا وتجعل منها شيئًا ثمينًا.
وقال الأمير الصغير: إن الناس في وطنك يربّون خمسة آلاف وردة في حديقة واحدة ولا يجدون فيها ما
يطلبون.
قلت: لا يجدون ما يطلبون.
قال: على أن ما يطلبون قد يكون في وردة واحدة أو في قليل من الماء.
قلت: هذا مما لا ريب فيه.
وأردف الأمير الصغير قائلًا:
إنّ العيون عمي، فإذا طلب المرء شيئًا فليطلبه بقلبه، وكنت قد شربت فانشرح صدري وسهل تنفسي وكان
لون الرمال عند ارتفاع النهار يشبه لون العسل فكنت مغتبطًا أيضًا بهذا اللون على أني كنت كئيبًا لا
أدري لماذا.
وقال الأمير الصغير برفق بعد أن جلس بالقرب مني: ألا أنجزت وعدك؟
قلت: أي وعد؟
قال: أن ترسم لي كمامة لخروفي فإني مسؤول عن تلك الزهرة.
فأخرجت من جيبي تصاويري فنظر إليها الأمير وضحك وقال: بوباباتك تشبه الملفوف بعض الشبه.
وكنت فخورًا بتلك البوبابات فامتعضت لكلامه ثم أردفَ فقال: أما الثعلب فأذناه تشبهان قليلًا القرون ثم
إنهما مفرطتان في الطول وأخذ يضحك. فقلتُ: إنك لجائر في حكمك فإنما الذنب ذنبي إني لا أحسن سوى
تصوير ظاهر الثعابين وباطنها.
فقال: لا بأس في ذلك فالصغار يدركون ما تعني.
وخربشت له كمامة ودفعتها إليه وقلبي منكمش وقلت: إنك عازم على أمر لا أدري ما هو.
فلم يجب على سؤالي بل قال: أتعلم أنّ غدًا ذكرى نزولي إلى الأرض وقد مرّ عليه سنة كاملة.
سكت قليلًا ثم قال: قد هبطت قريبًا من هنا.
واحمرّ وجهه فعاودتني كآبة غريبة لم أدر ما سببها على أني تجلّدت فقلت:
لم تكن إذن مصادفةً في هذه الأنحاء عندما رأيتك لثمانية أيام خلت تتمشى وحيدًا على بعد ألوف الأميال
عن كل بلد معمور. فإنك كنت عائدًا إلى المكان الذي هبطت فيه.
فزاد وجه الأمير الصغير احمرارًا.
فأضفتُ قائلًا: ألا تكون الذكرى حملتك على العودة إلى هنا؟
وما كان من عادته الإجابة على ما يطرح عليه من الأسئلة غير أنه احمرّ وجهه، واحمرار الوجه جواب
بالإيجاب.
فقلت: إني متخوّف.
قال: عليك الآن أن تنصرف إلى إصلاح طائرتك فامضِ إليها وأنا بانتظارك هنا، فعد إليَّ مساء الغد.
ولم تطمئن نفسي لكلامه، وذكرت الثعلب، وذكرت حديثه حيث يقول: يتعرّض المرء للحزن والبكاء إذا
مكّن الغير من تدجينه.
26
وكان بالقرب من البئر بقية من جدار من الصخر منهدم فلما عدت من عملي في مساء اليوم التالي لمحت
عن بُعد الأمير الصغير جالسًا على أعلى الجدار ورجلاه متدليتان وسمعته يقول:
ألا تذكرين، لم يكن لقاؤنا هنا بل قريبًا من هنا.
ولا بدَّ من أن يكون قد تلقّى جوابًا فإنه قال: بلى. بلى. هو يوم ملتقانا غير أن هذا المكان ليس هو المكان
الذي التقينا فيه.
وتابعتُ سيري إلى الجدار وأنا لا أرى أحدًا ولا أسمع صوتًا بيد أن الأمير الصغير كان يجيب على أسئلة
توجّه إليه. وسمعته يقول:
... لا ريب في ذلك فإنك سترين أين يبدأ أثر خطوي في الرمل، فانتظريني إذا صرت هنالك أما أنا
فأكون عندك هذه الليلة.
وكنت على عشرين مترًا من الجدار وما من أحد أراه هناك وسكت الأمير الصغير قليلًا ثم قال:
أرجو أن يكون سمك زعافًا فلا أقاسي الألم طويلًا. هل أنت على ثقة من سمّك؟
فوقفت عندئذٍ وقد انقبض قلبي ولم ينجلِ لي معنى كلامه حتى تابع فقال: اذهبي الآن... فأنا نازل عن
الجدار.
فالتفتُ إلى أسفل الجدار ووثبتُ ذعرًا فإني رأيت عنده حية صفراء من الأراقم التي تقضي على الملسوع
في لحظة وهي منتصبة في وجه الأمير الصغير فأسرعت إليها وقد انتشلت المسدس من جيبي لكنها
أحسّت بي فهبطتْ وئيدًا إلى الرمل كما يهبط الماء الصاعد من النافورة إذا سُدَّ مجراه وانسابت على مهل
بين الحجارة ولها خشخشة كخشخشة الحلي المعدنية.
وما إن انتهيت إلى الجدار حتى تلقيت الأمير الصغير بين ذراعي وكان لونه ممتقعًا شاحبًا فقلت له:
ما هذه القصة! إنك تحاور الآن الحيّات!
ونزعت عنه منديله الذهبي اللون الذي ما كان يفارق عنقه ورطبت صدغيه بالماء وسقيته وأخذت أنظر
إليه لا أجرؤ على طرح أي سؤال عليه، فحدّق إليّ مليًا ثم طوّق عنقي بذراعيه، فأحسست بقلبه ينتفض
كما ينتفض قلب عصفور رماه الصياد فأصماه، فهو يموت.
وقال لي: قد سرني أنك وجدت ما كان ينقص طائرتك، ففي وسعك الآن أن تعود إلى موطنك.
فقلت له: وكيف عرفت ذلك؟
كان في نيتي عند مجيئي أن أخبره بأني تمكنت من إصلاح الطائرة بعد أن قطعت كل أمل من إصلاحها.
فلم يجب على سؤالي بل قال: وأنا أيضًا أعود اليوم إلى موطني.
ثم قال والكآبة ملء صوته: إن موطني لأبعد من موطنك والطريق إليه أشقُّ من طريقك وأصعب.
وكنت أتوقع حدوث أمر جلل، فضممته بين ذراعي ضمًا شديدًا كما تضمّ الأمُّ طفلها، وكان يخيّل إليّ أني
بالرغم من ضمّي له ينفلت منّي وينحدر توًا في هاوية فلا أستطيع إمساكه. وكان نظره عميقًا شاردًا.
وقال: عندي الآن الخروف وعندي صندوق الخروف وعندي الكمامة، ثم ابتسم ابتسامة كئيبة.
وسكت وانتظرتُ مليًا. ثم شعرت بأن الحرارة ترجع إليه قليلًا قليلا فقلت: أراك قد خفت يا عزيزي.
وما من ريب في أنه خاف بيد انه ضحك ضحكة لطيفة وقال: وفي هذا المساء يكون خوفي أعظم.
فجمد الدم في عروقي وأيقنت بوقوع ما لا مردّ له. وأدركتُ أن لا طاقة لي باحتمال حرمانه من سماع
ضحكة الأمير فإنها كانت في أذني كخرير ماء النبع في الصحراء.
وقلت له: وددت يا عزيزي لو ضحكت أيضًا فأسمع ضحكتك، فلم يجب بل قال: في هذه الليلة ينقضي عام
على هبوطي في هذا الكوكب وتكون نجمتي فوق المكان الذي هبطت فيه في السنة الغابرة.
فقلت: يا عزيزي، قل لي ألا تكون قصة الحية وقصة الموعد الذي ضربته لها قصة النجمة حلمًا مزعجًا
حلمته.
فلم يجب بل قال: لا شأن لما يُرى فكل الشأن لما لا يُرى.
قلت: لا ريب في ذلك.
قال: الحال في هذا كحال الزهرة فإنك إن أحببت زهرة في نجمة وجدت في النظر إلى السماء في الليل لذةً
وسرورًا، وحسبت أن النجوم قد أزهرت جميعها.
قلت: لا ريب.
قال: وحال الزهرة كحال الماء، فإن الماء الذي سقيتني كان كالموسيقى الذي علق به من نغم البكرة ونغم
الحبل. ألا تذكر؟ إن ذلك الماء كان لذيذًا سائغًا.
قلت: لا ريب.
قال: إنك ستنظر في الليل إلى النجوم ولا ترى موطني فإن موطني على غاية من الصغر يحول صغره
دون الاهتداء إليه، على أن الأفضل لك أن لا تراه فتقول في نفسك: هو نجمة من هذه النجوم. وتنظر إلى
النجوم جميعًا وتحبها جميعًا وتغدو النجوم جميعًا صديقات لك. ثم إني مهديك هدية.
وضحك فقلتُ: يا عزيزي ما ألذَّ ما أسمع من ضحكك.
قال: هو ما أحبُّ أن أهديك. أهديك ضحكي فيكون كالماء.
قلت: ما تعني؟
قال: للناس نجوم يختلف بعضها عن البعض الآخر، فمن الناس من يسافر فتكون النجوم مرشدات له، ومن
الناس من لا يرى في النجوم إلا أضواء ضئيلة، ومنهم من يكون عالمًا فتكون النجوم قضايا رياضيّة
يحاول حلّها، ومنهم من يكون كصاحبي "البزنسمان" فيحسب النجوم ذهبًا. وهذه النجوم على اختلافها تظل
صامتة أما أنت فيكون لك نجوم لم تكن لأحد من الناس.
قلت: ما تعني؟
قال: فإذا نظرت في الليل إلى السماء حيث أكون في إحدى النجوم ضحكتُ أنا فيُخيل إليك أن سائر النجوم
تضحك وهكذا يكون لك نجوم تحسن الضحك.
وضحك أيضًا ثم قال: وإذا أنت سلوتني (ولا بدَّ لكل امرىء من أن يسلو) وجدت راحة في أنك عرفتني
أما أنا فأحفظ لك مودّتي، فإذا اشتهيت أن تضاحكني فتحت نافذتك ونظرت إلى السماء وضحكت فيعجب
أصدقاؤك منك ومن ضحكك فتقول لهم: لا عجب فإن مشهد النجوم يثير فيَّ الضحك. ويعتقد أصدقاؤك
أنك مجنون. فما رأيك في هذه الورطة التي ورطتك فيها.
وضحك أيضًا ثم قال: أنا لا أهبك نجومًا بل مجموعة من الجلاجل الصغيرة قد أتقنت الضحك.
وضحك أيضًا ثمّ عاد إلى رصانته فقال: لا تصحبني هذه الليلة.
قلت: لا أتركك الليلة.
قال: إذا صحبتني خشيت أن ترى فيَّ عوارض الألم ولا ألم. وان تراني أموت ولا موت. فالأفضل أن لا
ترى ذلك. لا تأت الليلة فلا فائدة من مجيئك.
وبدت على وجهه علائم القلق وقال: أقول لك هذا خوفًا عليك من الحية، فأنا أخشى أن تلسعك والحيّات
كما تعلم خبيثات قد تلسع لمجرد لذة اللسع.
قلت: لا أتركك الليلة.
وكأن فكرًا خطر له فاطمأن وقال: على أن الحية إذا لسعت أفرغت سمّها ولا تستبقي منه للسّعة الثانية.
ما رأيته تلك الليلة عندما أخذ في طريقه فإنه انسلَّ خفية ولم يسمع له حركة. ولما لحقت به كان يمشي
مسرعًا بخطو ثابت. فما إن رآني حتى قال: قد جئت! ولم يزد.
ثم أخذ بيدي وسرنا، وكان الأسى باديًا على وجهه. وبعد قليل قال لي: قد أخطأت بالمجيء، فإنك ستحزن
لاعتقادك بأني ميت، وما أنا ميت.
فصمتّ ولم اجب فقال: إن وطني بعيد، وليس في طاقتي نقل هذا الجسم إليه فإنه ثقيل.
وبقيت صامتًا فقال: وما هذا الجسم إلا قشرة بالية، وهل تثير القشرة البالية حزنًا!
وبقيت صامتًا.
فيئس من جوابي بيد أنه تشدّد فقال:
وأنا أيضًا سأنظر إلى النجوم وستكون النجوم عندي آبارًا لها بكرات ركبها الصدأ تجود عليَّ بمائها
فأشرب.
وبقيت صامتًا.
فأردف: ما أجمل ما تكون حالنا! يكون لك خمسماية مليون من الجلاجل ويكون لي خمسماية مليون من
الينابيع.
وسكت هو أيضًا لأن البكاء غلب عليه.
ثم قال: قد بلغنا المكان. فدعني أسير قليلًا وحدي، لكنه جلس لأن الخوف كان قد اعتراه، وقال أيضًا:
أنت تدري أني مسؤول عن زهرتي، وإنها ضعيفة واهنة، وإنها على غاية من السذاجة. وليس لها لحماية
نفسها من شرّ هذا العالم سوى أربع شوكات صغار لا آبه لها.
وخارت قواي، ولم أستطع البقاء واقفًا فجلست بالقرب منه فقال:
قد انتهى كل شيء.
وتردّد قليلًا ثم نهض وخطا خطوة. أما أنا فما كنت أستطيع حراكًا.
لم أرَ سوى وميض مرَّ بالقرب من رجله فلبث هنيهة جامدًا في مكانه لا يتحرك ولا يصيح، ثم هوى برفق
كما تهوي الشجرة، وكان سقوطه على الرمل فلم يسمع له حسّ.
27
الآن قد مضى ست سنوات لم أقصّ أثنائها هذه القصة على أحد من الناس. ولما عدت إلى رفقائي سرّوا
بنجاتي كثيرًا وهنأوني بالسلامة، أما أنا فكنت كئيبًا. ولما سألوني عن كآبتي قلت لهم: هو التعب.
قد سلوت بعض السلوان لا كله لعلمي بأنه عاد إلى كوكبه فإني لم أر جثمانه عند طلوع الفجر. ولا عجب
فجثمانه لم يكن من الثقل بحيث يصعب انتقاله. إني أحبّ الآن الاستماع إلى النجوم في الليل فهي خمسماية
مليون من الجلاجل.
غير أن فكرًا ينغص عليَّ راحتي: إني سهوت عن إضافة سير من الجلد على الكمامة التي رسمتها للأمير
الصغير، فكيف يثبت الكمامة في رأس الخروف، فأنا لا أفتأ أسأل نفسي قائلًا:
ماذا جرى يا ترى في كوكب الأمير ؟
قد يكون الخروف أكل الزهرة.
ثم أجيب نفسي قائلًا: هذا لا يكون فإن الأمير الصغير يضع الزهرة تحت غطاء من الزجاج، وإنه يراقب
خروفه ويسهر عليه. فأغتبط لهذه الفكرة وتغتبط النجوم لغبطتي فتضحك.
ثم أقول: قد يغفل الأمير عن زهرته أو عن خروفه فتقع الكارثة.
قد يكون سهى في أحد الأمسيات عن وضع الغطاء، وقد يكون الخروف سرح يومًا في الليل دون أن
يشعر به الأمير. وعندئذٍ ينقلب ضحك الجلاجل إلى بكاء.
هذا سرٌّ عظيم ينغّص عليّ عيشتي. كلّ شيء في العالم يتغيّر وجهه لي ولكم، أنتم الذين تحبون الأمير
الصغير، كلما فكرنا في خروف لا نعرفه في ناحية من الكون لا نعرفها وسألنا نفوسنا قائلين:
تُرى أكل الخروف الوردة أم لم يأكلها؟
انظروا إلى السماء وسائلوا نفوسكم قائلين: هل أكل الخروف الزهرة أم لم يأكلها وللحال يتبدّل لكم وجه
الكون.
ما من أحد من الكبار يدرك أنّ هذا الأمر هو على جانب عظيم من الخطورة.
إن المنظر الذي ترى في الصفحة المقابلة لهذه الصفحة هو في عيني أجمل منظر في الكون وأشدّ المناظر
كآبة. هو المنظر نفسه الذي تراه في الصفحة السابقة وقد أعدت رسمه للفت نظرك إليه. ففي هذا المكان
ظهر الأمير الصغير على الأرض ومنه اختفى.
تأمّلوا هذا المنظر مليًّا حتى إذا رحلتم يومًا إلى أفريقية وتوغلتم في الصحراء تمكنتم من معرفته وإثباته،
وإذا اتفق لكم أن مررتم بذلك المكان فأسألكم بإلحاح أن لا تتجاوزوه مسرعين بل تمهّلوا فيه وقفوا قليلًا
تحت النجمة.
فإذا أقبل عليكم ولد وضحكَ وكان شعره بلون الذهب وأحجم عن الجواب كلما سألتموه عرفتم إنه هو.
فأرفقوا عندئذٍ بي ولا تتركوني وكآبتي بل بادروا بالكتابة إليّ وإخباري بعودته.
No comments:
Post a Comment